الأنصاري... مفكر عربي استثنائي

03:08 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

ما زالت الذاكرة، تحتفظ بمذاق الزيارة الأولى إلى البحرين، قبل نحو نصف قرن من الزمان، في أواخر العام 1970، رافقت فيها الصديق المرحوم تريم عمران تريم، حيث قبلها بشهور تم تأسيس مجلة شهرية «الشروق»، وصحيفة يومية «الخليج» في إمارة الشارقة. وجئنا وقتها نحمل رسالة من الشيخ خالد بن محمد القاسمي حاكم الشارقة آنذاك، إلى الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين، طيب الله ثراهما. وهي رسالة تهنئة وتحية لقيادة وشعب البحرين، إثر الاستفتاء الوطني، الذي قاده الدبلوماسي الايطالي (جويشاردي) ممثل أوثانت الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق، والذي أكد عروبة واستقلال وسيادة البحرين، وصادق عليه مجلس الأمن الدولي في مايو 1970.
في هذه الزيارة، قادنا، شغفُنا الصحفي، لمقابلة الشيخ محمد بن مبارك في مكتبه، وكان وقتها رئيساً لدائرة الخارجية، ورافقنا في اللقاء محمد جابر الأنصاري، مدير دائرة الإعلام وقتها، وتبادلنا جميعاً الحوار حول مصير «الاتحاد التساعي». الذي كان يجري التفاوض والنقاش حوله طوال العامين السابقين، وبحماس الشباب وقلق التساؤل لدينا، طرحنا سؤالاً مستفزاً، حول ما يتردد عن «صفقة بريطانية إيرانية» تتعلق بالبحرين وبالجزر الإماراتية الثلاث، (قبل أن تحتلها قوات شاه إيران المسلحة في الثلاثين من نوفمبر 1971)..... وقد ظل هذا السؤال القلق مثار جدل لسنوات تلت.
كان هذا هو لقائي الأول مع محمد جابر الأنصاري، توالت اللقاءات والحوارات حتى نهاية القرن، في ندوات ومؤتمرات فكرية، واجتماعات رسمية كثيرة، ووجدت فيه أنه صاحب أدب وفكر من طراز رفيع، تتوافر لديه النظرة الشاملة التي تمكنه من بلورة مشروع نهضوي عروبي إنساني، والقدرة على أن يقدم في كل كتاباته، صورة مميزة من «الصفاء التعبيري»، على حد قول الناقد الراحل رجاء النقاش. وبأسلوب يجمع بين العلم والتاريخ وجمال الأدب، وبلغة حوارية، وبنفس وطني غيور، وعروبي منفتح وإنساني.
كان للدكتور الأنصاري، أدوار مشهودة في بلورة ثوابت وطنية وقومية، وفي استشراف لمؤشرات التغيير والتحول في عالمنا، والانفتاح المعرفي على عوامل النهوض في غرب آسيا، وبخاصة في اليابان وكوريا وسنغافورة. وقدم في كتبه قراءات واعية ونقدية، لفهم الواقع العربي، وبين أن السياسة كعلم، هي من أضعف نقاط الفكر العربي.
وفي رؤية الأنصاري للحضارة العربية الإسلامية، إنها «كانت غنية بعطائها الروحي والإنساني والعلمي، لكن فقه السياسة ظل متواضعاً وضعيفاً، وكذلك حال المؤسسات السياسية الدائمة ضمن كيان الدولة، ما عدا مؤسسة الخلافة، وما تفرع عنها من دواوين»
ويؤكد الأنصاري، أن لهذه الحضارة، كانت خصوبة في الفقه واللغويات وعلم الكلام والعلوم والرياضيات، فضلاً عن التعددية، إلا أن هذه التعددية كانت منفلتة وغير متسقة. ويضيف: «لقد تفاعلت هذه الحضارة مع بيئات متنوعة، وتغيرت عواصمها، ولم تتح لها مركزية ثابتة في عصور كثيرة».
وكثيراً ما تساءل الأنصاري، عن العوامل الموضوعية المتسببة في استدامة الأزمات العربية، وقد لخص أحد المفكرين العرب رؤية الأنصاري، لإشكاليات الفكر العربي المعاصر، بما أسماه؛ «القاعدة الأنصارية» الرباعية، وهي: العقل والإيمان،/ الدين والدولة،/ القومية واللاقومية،/ النظرة إلى الغرب. وتلخص هذه القاعدة، رؤية الأنصاري النقدية للذات الجمعية للأمة، وللتاريخ وللواقع العربي الراهن، وللآخر.
وأذكر للأنصاري، مجادلات راقية في الطرح والإصغاء، في ندوات منتدى الفكر العربي، قبل أكثر من ثلاثة عقود، حينما ارتفع صوت نخب فكرية، تطالب بإلحاح «بتجسير الفجوة بين المفكر والأمير»، وسجل الأنصاري رؤيته لهذا الموضوع في كتاباته، ومفادها «أن السلوك السياسي العربي السائد رسمياً وشعبياً، نادراً ما يُقبل على التوافق والأخذ والعطاء، وأن مفهوم العمل السياسي، قد تجمّد اليوم في مستوى المجابهة والحماسة، ووظف الدين لأغراضه». لكن هذا الرأي، لم يمنع الأنصاري من إبداء بعض التحفظ عليه، ويقول فيه: «لم يخل العمل السياسي العربي من قادة وساسة امتازوا بالحكمة في تدبير الحكم، والكفاءة والقدرة، وأدوا واجبهم بشكل جيد، لكن المهم هو التشكيل الجماعي».
أعطى الأنصاري اهتماماً كبيراً، في مشروعه الفكري النهضوي، لمسألة الدولة العربية القُطرية، وللعوامل التاريخية الموضوعية التي عطلت قيام دولة عربية موحدة، ونفى فكرة أن العرب كانوا يعيشون حالة (وحدة) في نهاية الحكم العثماني، عدا عن إحساسهم بالرابطة الوجدانية والمعنوية العامة، وتوصل إلى استنتاج مفاده: «استحالة تحقيق الوحدة أثناء الحكم العثماني، والسيطرة الاستعمارية التي تلت، واستحالة الانتقال المباشر من الاستعمار إلى الوحدة، واستحالة الوحدة بين دول حديثة الاستقلال، قبل بناء كيانها وتحقيق ذاتها، ولا يبقى من إمكانية فعلية للوحدة، غير قيام الدولة الوطنية القطرية ونموها والتدرج منها نحو الوحدة».
حلل الأنصاري، في ثنايا مشروعه الفكري، الواقع العربي الراهن، وطالبنا بفهم الواقع التاريخي المجتمعي، الممتد في الزمان والمكان، ورأى أن ذلك سيقودنا إلى فهم الخصوصية التاريخية المجتمعية للأمة. وقد سلط الأنصاري الضوء على ما يعتقده من خصوصيات، وتأثيراتها في الأزمات المستفحلة الراهنة. ومن بينها خصائص المكان (الجغرافيا) وجواره الإقليمي، وموقعه العالمي، وعاد في بحوثه، إلى مغزى حروب الردة والفتنة الكبرى، مروراً بإجهاض عصر التنوير العباسي، حتى نهاية الحكم العثماني، وتدمير النظام التجاري العربي الإسلامي، فضلاً عن إشكاليات الدولة في الحياة العامة، والعجز في المجتمع المدني، وسيطرة القوى الريفية على قوى المدينة العربية.
أتذكر الصديق محمد جابر الأنصاري، واستنتاجاته التي كتبها قبل عقدين ونصف العقد، وكيف أننا نستحضرها اليوم، ونقبض على الدولة الوطنية، ونفتديها لكي لا ينفرط عقدها أو يختل نسيجها الاجتماعي، وكأني به يتنبأ بما وصلنا إليه اليوم من هواجس وقلق وتشظٍّ، وأزمات مركبة، في الهوية الجامعة، ودرجة الاندماج الوطني، والحداثة السياسية، والاختراق الخارجي للأمن القومي، وصعود قوى غير دولاتية عنيفة، تنازع الدولة في أدوارها وفي سيادتها.....الخ.
أتذكر الصديق الأنصاري، وأدعو الله أن يعافيه، وأقول له، إننا فخورون بما قدمت من زاد فكري نقدي وموضوعي، تعلمنا منه الكثير، وثماره ستخلد بين الأجيال القادمة، وسنظل نذكر تواضعك وحكمتك، وانشغالاتك في الهم الوطني والقومي، وحاجة الأمة للنهوض.
وتذكر أيها الصديق.. كم هجونا «سايكس- بيكو»، على مدى نحو قرن، ونظر بَعضُنَا إلى الدولة الوطنية القطرية باعتبارها صناعة استعمارية، من دون وعي معرفي يستوعب الواقع، والعوامل المؤثرة فيه.......وها نحن اليوم نبكي الدولة الوطنية، ونخاف عليها، ونذود عنها بلاء الغُلاة والطغاة والبُغاة، والتشرذمات الهوياتية الطائفية والعرقية.
في هذه الأزمنة الصعبة، يا صديقي، وفي ضوء التحولات الجارفة والعميقة، وثورات التقانة والمعرفة والمعلومات والذكاء الاصطناعي، علينا أن نبحث عن تحديات أخرى، غير لعن «سايكس بيكو»، علينا مواجهة التصحر في الإرادة السياسية، وأن نحسن إدارة التنوع في مجتمعاتنا العربية، والتصالح مع متطلبات بناء الدولة العصرية، والحكم الصالح.
إن ما يوحدنا كعرب، بكل مكوناتنا المجتمعية والحضارية، من دين ولغة وثقافة، وتاريخ ومصير واحد، ومصالح مشتركة، هي مقومات حقيقية، لكن علينا أن لا نُحملها أكثر مما تحتمل.
وسيبقى السؤال، الذي ربما دار في فكر الأنصاري، وهو: هل نستطيع كنخب مثقفة وسياسية واقتصادية أن نقدم صيغاً أفضل مما قدمه، العقيد البريطاني سير مارك سايكس، وزميله الدبلوماسي الفرنسي فرانسيس جورج بيكو، في العام 1916؟
تحية طيبة إلى الصديق العزيز الدكتور محمد جابر الأنصاري. الذي كرمته مملكة البحرين، في الأسبوع المنصرم، واحتفت به في حياته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"