العسكر والديمقراطية في موريتانيا

05:40 صباحا
قراءة 5 دقائق

قبل ثمانية وعشرين عاماً أفلح ضابط سوداني في تحقيق إنجازين كبيرين، يتمثل الأول في تخليص بلاده من نظام جعفر النميري، ويتمثل الثاني في وضع هذه البلاد على طريق الديمقراطية عبر تكريس التعددية الحزبية وانتخاب المؤسسات التمثيلية.

وبعد هذين الإنجازين الكبيرين غادر الجنرال سوار الذهب قمة السلطة، وأعاد الجيش إلى ثكناته محققاً بذلك إنجازاً ثالثاً أهم تم اعتباره، عن حق، استثناء في التاريخ العربي الحديث الذي التصقت فيه أجسام معظم الضباط الانقلابيين بكراسي السلطة حتى مماتهم.

ولكن إنجازات الضابط السوداني الزاهد سرعان ما تبددت على أيدي قوى سياسية أقل نضجاً سهلت على الانقلابيين من داخل الجيش ومن خارجه إعادة السودان إلى المربع الأول.

ووجدت تجربة الضابط السوداني، بعد عشرين عاماً، من يعيدها وينقحها ويطورها في موريتانيا عندما أزاح الجيش الرئيس معاوية ولد الطايع في الثالث من أغسطس/ آب ،2005 وقاد العقيد علي ولد محمد فال، في تشاور مع معظم الفاعلين السياسيين في البلاد، عملية وضع الأسس الدستورية والقانونية للحكم الديمقراطي، وأشرف على تنظيم انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية، وحرّم على نفسه وعلى زملائه في المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية الترشح إلى هذه الانتخابات، وتوّج عاماً ونصف العام من المسؤولية العليا بتسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب وبقية المؤسسات المنتخبة.

وبعدما أعادت التجربة الموريتانية الأمل في إمكان تقديم المؤسسة العسكرية مساهمة إيجابية في تعزيز الديمقراطية، وبعدما أيضاً حظيت هذه التجربة بتثمين عالمي واسع حكومي وغير حكومي، وبعدما تقدم الرئيس المنتخب، رغم الصعوبات والعراقيل، في تنفيذ عدد من بنود البرنامج الذي انتخب على أساسه، عاد الانقلابيون من جديد، متجاوزين استثناء ،2005 مبرزين وجه التنافر في العلاقة بين سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم وبين تقدم البناء الديمقراطي.

ويعدّ الانقلاب الذي قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز في السادس من الشهر الجاري خامس انقلاب ناجح تعرفه موريتانيا منذ استقلالها عن فرنسا سنة ،1960 وكان الانقلاب الأول قد قاده العقيد ولد السالك ضد أول رئيس موريتاني هو الراحل المختار ولد داده. أما الثاني فقاده العقيد محمد ولد الولي سنة 1979. وبعدما أزيح هذا الأخير حل محله العقيد ولد هيدالة الذي أطيح في نهاية 1984 من قبل العقيد معاوية ولد الطايع الذي قاد الانقلاب الثالث ثم ذهب ضحية الانقلاب الرابع في صيف 2005.

وإذا كانت موريتانيا قد عرفت تسعة انقلابات فاشلة صاحب معظمها الدم والاعتقال، فإن انقلاباتها الخمسة الناجحة جاءت بيضاء رغم ما تلاها من سواد.

وعند النظر إلى الأعوام الثمانية والأربعين من تاريخ الدولة الموريتانية المستقلة التي سيطر العسكريون على الحكم خلال ثمانية وعشرين عاماً منها تبرز تساؤلات كبيرة حول هذه الظاهرة اللافتة.

وإذا كانت الظاهرة المذكورة قد ارتبطت بالدول حديثة النشأة أو حديثة الاستقلال، وقد عكست ضعف تبلور مكوناتها الاجتماعية والسياسية، التي رشحت العسكريين، كقوة منظمة ومحتكرة للسلاح، للسيطرة على الحكم، فإن القوات المسلحة الموريتانية كانت هي الأخرى ضعيفة عدة وعدداً في معظم فترة حكم الرئيس المختار ولد داده، ولم تكن قادرة على مزاحمة هذا الأخير. ولكن القوات المسلحة الموريتانية تعززت كثيراً عندما انخرطت موريتانيا إلى جانب المغرب في اقتسام الصحراء الغربية في بداية سنة ،1976 وفي مواجهة قوات جبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الإقليم.

وعلى الرغم من أن الجيش الموريتاني قد تلقى ضربات مؤلمة من طرف قوات جبهة البوليساريو، وعجز عن التصدي لهذه الأخيرة المدعومة من طرف الجزائر وليبيا يومئذ، وعلى الرغم، كذلك، من أن قوات جبهة البوليساريو تمكنت في ربيع سنة 1976 من الوصول إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط، فإن القيادة العسكرية الموريتانية سعت إلى تحويل هزيمتها إلى نصر، وهاجمت حكم الرئيس المختار ولد داده وأسقطته في يوليو/ تموز من سنة ،1978 معتبرة أن إنقاذ موريتانيا يتطلب إخراجها من المسار الذي وضعها فيه الرئيس ولد داده، أي إخراجها من نزاع الصحراء الغربية الذي هدد استقرارها ووحدتها.

ومنذ صيف 1978 ظلت موريتانيا خاضعة لحكم العسكريين الذين كانوا يتناوبون على الانقلاب على بعضهم حتى سنة ،2005 وها هم اليوم ينقلبون على تجربة العقيد علي ولد محمد فال وعلى الرئيس المدني المنتخب ديمقراطياً.

وكيفما كانت الأخطاء وجوانب التقصير التي قد تكون طبعت أداء الرئيس ولد الشيخ الذي تم إسقاطه في السادس من الشهر الجاري، فإن تصحيح الأخطاء المحتملة وتجاوز جوانب التقصير المفترضة، يتمان على قاعدة الدستور، ويندرجان ضمن صلاحيات المؤسسات الديمقراطية، ولا يدخلان في اختصاصات مجموعة من الضباط العسكريين.

وتشير معطيات الأزمة السياسية التي عرفتها موريتانيا في الأشهر القليلة الأخيرة الى أن الانقلابيين نجحوا في تحويل النتائج التي كان يتوخاها الرئيس ولد الشيخ من خلال تكوين حزب سياسي يلم شتات البرلمانيين المساندين لبرنامجه، ويوفر بعض الاستقرار للمشهد الحزبي في البلاد، إلى نتائج عكسية أصبح معها الحزب الجديد منقسماً على نفسه، وأصبح عشرات البرلمانيين الذين انتموا إليه صنيعة بيد بعض الضباط يهاجمون من خلالها الرئيس والحكومة، ويعرقلون عملهما.

وعندما اضطر الرئيس إلى ممارسة صلاحياته الدستورية بإبعاد أربعة ضباط من المواقع التي كانت تسمح لهم بعرقلة عمل الرئيس والحكومة، اهتبل هؤلاء الفرصة لينقلبوا على الشرعية الدستورية، وليمنحوا أنفسهم سلطات فوق دستورية يقومون، من خلالها، بانتهاك الدستور الذي صادقت عليه أغلبية الشعب، وبالإطاحة بالرئيس الذي انتخبته أغلبية هذا الشعب.

وتبدو الذرائع، التي يسوقها الانقلابيون ومناصروهم لتبرير انتهاك الشرعية الدستورية، هزيلة أمام الواقع والعقل. ومن أهم الذرائع اتهام ولد الشيخ باحتضان رموز الفساد الذين دعموا حكم الرئيس معاوية ولد الطايع.

وينسى مروجو هذا الاتهام أن انقلابيي اليوم هم الذين تحملوا المسؤوليات الرئيسية، من خلال مواقعهم القيادية في أجهزة الأمن والدرك، في الدفاع عن نظام الرئيس ولد الطايع وقمع منتقديه ومعارضيه من الديمقراطيين ومناصري حقوق الإنسان.

ولم يكن غريباً أمام مثل هذه الذرائع وغيرها، وأمام الاهتمام والتشجيع اللذين ميزا تعاطي المجتمع الدولي مع انتقال موريتانيا إلى الحكم الديمقراطي من خلال الانتخابات النزيهة، أن تتوالى مواقف التنديد والإدانة ضد الانقلابيين الموريتانيين، وأن تبادر الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والاتحاد الأوروبي إلى وقف مساعداتها غير الإنسانية لموريتانيا أو التلويح بذلك. ولم يكن غريباً كذلك أن يتجرأ الاتحاد الإفريقي على تعليق عضوية موريتانيا فيه إلى حين عودة الشرعية الدستورية إليها.

وعلى الرغم من أن الموقف الدولي يبقى مهماً، فإن الأهم منه هو الموقف الداخلي الموريتاني. وفي هذا الباب يتعين التنويه بالقوى المعترضة على انتهاك الشرعية الدستورية والمطالبة بالعودة إلى جادة الصواب. ومن هذه القوى التحالف الشعبي التقدمي الذي يرأس زعيمه مسعود ولد بولخير المجلس النيابي، واتحاد قوى التقدم اليساري والتجمع الوطني للإصلاح والتنمية الإسلامي.

والأخطر في الأمر هو الانحياز المثير للانقلابيين الذي عبّر عنه تكتل القوى الديمقراطية ورئيسه أحمد ولد داده. ولن يؤدي هذا الانحياز إلى تشتيت صفوف القوى الديمقراطية في موريتانيا فقط، بل قد يؤدي إلى تسهيل مأمورية الانقلابيين في ضرب الديمقراطية بالديمقراطيين المتلهفين على المناصب والمواقع.

وإذا كان ولد داده قد اتهم منافسه ولد الشيخ باعتباره مرشح العسكريين.. فماذا سيقول عن نفسه بعدما دعم المنقلبين على الشرعية الدستورية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"