"المتوسطي" وحسابات الربح والخسارة

04:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

تم الإعلان، يوم الأحد الثالث عشر من يوليو/ تموز الجاري، في العاصمة الفرنسية باريس، عن ميلاد ما أصبح يسمى الاتحاد من أجل المتوسط بحضور رؤساء دول وحكومات البلدان السبعة والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مرفوقين بنظرائهم في شرق وجنوب المتوسط بمن فيهم الرئيس الموريتاني، ومرفوقين كذلك بنظرائهم في أربع دول من البلقان هي ألبانيا والجبل الأسود والبوسنة وكرواتيا.. إضافة إلى إمارة موناكو.

وبهذا الإعلان يكون شوط ساخن وحاسم من أشواط العلاقة الأوروبية المتوسطية قد انتهى، ويصبح بالإمكان رصد النتائج العامة لهذا الشوط، وحصر حسابات الربح والخسارة في صورتها الأولية، بالنسبة للأطراف الأساسية في تلك العلاقة.

ويبدو أن الطرف الذي شد الأنظار إليه، وأثار حوله الكثير من التساؤلات، هو الطرف الفرنسي الذي بادر بالدعوة إلى إنشاء الاتحاد المتوسطي الذي يجمع أعضاء الاتحاد الأوروبي المطلين على المتوسط وحدهم ببقية الدول المطلة على نفس البحر.

وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، قبل وصوله إلى قصر الإليزيه، قد جعل من الاتحاد المتوسطي إحدى الدعامات الرئيسية للسياسة الخارجية التي عرضها أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، ونبه ساركوزي الفرنسيين في أحد مهرجاناته الخطابية الذي نظم بمدينة طولون الواقعة على الساحل المتوسطي لفرنسا.. إلى أن مستقبلهم يحسم هنا.. في المتوسط. وبعد فوزه واصل الرئيس ساركوزي التغريد منفردا في سبيل الاتحاد سالف الذكر، متجاوزا في ذلك مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والدول الوازنة في هذا الاتحاد، ومتجاوزا أيضا دول الاتحاد المتوسطية مثل اليونان وإيطاليا واسبانيا. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي تجرأ الرئيس ساركوزي أكثر، وعرض في مدينة طنجة المغربية الخطوط العريضة لمشروعه المتوسطي من دون تشاور مع شركائه في الاتحاد الأوروبي.

وكان الرد على ساركوزي صارما من مسؤولي الاتحاد الأوروبي ومن الدول الكبرى في هذا الاتحاد وفي مقدمتها ألمانيا التي اعتبرت أن المبادرة الفرنسية ترمي إلى تنمية نفوذ فرنسا عن طريق انفتاحها على الجنوب المتوسطي، وتتطلع من وراء ذلك إلى تحسين وضعها ووزنها إزاء ألمانيا التي تعاظم نفوذها باستعادة وحدتها أولا وباتساع نفوذها في وسط وشرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ثانياً. وتحدثت المستشارة الألمانية صراحة عن رفضها للمبادرة الفرنسية باعتبارها تقسم أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى متوسطيين وغير متوسطيين، وباعتبارها تستخدم موارد هذا الاتحاد من أجل تعزيز روابط الأولين بمستعمراتهم السابقة. ولم تخرج المبادرة الفرنسية من النفق إلا بعدما فقدت الكثير من مقوماتها، وألحقت بمسلسل برشلونة، وشملت كافة أعضاء الاتحاد الأوروبي، وألغيت العديد من المؤسسات والآليات التي قدمت لتكريس دينامية الاتحاد المتوسطي.

وبذلك يكون الرئيس ساركوزي قد تلقى دروساً قوية سيستحضرها كلما راودته نفسه على التقدم بمبادرات لا تناسب حجم ووزن فرنسا، وكلما عنّ له أن يتجاهل شركاءه وينفرد بالدعوة إلى مشاريع تعنيهم وتلزمهم. وبذلك أيضا، يكون الرئيس الفرنسي قد فشل في تطوير نفوذ فرنسا بصورة تحفظ التوازن مع ألمانيا.

وبموازاة ذلك، تم حفظ ماء وجه الرئيس الفرنسي، وتم منحه شرف استضافة مؤتمر حاشد ضم رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي والدول المتوسطية، ولم يغب عنه إلا الرئيس الليبي. وتم كذلك منحه رئاسة الاتحاد من أجل المتوسط باسم الطرف الأوروبي إلى جانب الرئيس المصري باسم الدول المتوسطية الأخرى.

وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن المبادرة الفرنسية الأصلية فقدت العديد من مقوماتها، فإن ما تم الإبقاء عليه يمثل تطويرا وتحسينا لمسلسل برشلونة، وهو أمر يحسب لفرنسا ساركوزي.

ومن جهتها، حققت إسرائيل من خلال إنشاء الاتحاد من أجل المتوسط الذي يعد صيغة متقدمة على مسلسل برشلونة تشرك رؤساء الدول والحكومات ولا تكتفي بالوزراء، تقدماً مهماً في فك عزلتها الإقليمية، وأصبح وزيرها الأول يشارك رؤساء الدول والحكومات العربية في هذا الاتحاد. وبذلك تكون إسرائيل التي أفشل تنكرها لعملية السلام مسلسل برشلونة قد كوفئت على ذلك.

وإذا كان ما حققته إسرائيل يمثل خسارة عربية، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث تم الخضوع للضغوط الإسرائيلية باستبعاد مشاركة جامعة الدول العربية باعتبارها مراقباً دائماً في الاتحاد من أجل المتوسط، وحيث تم الخضوع لنفس الضغوط بتجنب تضمين البيان المؤسس لهذا الاتحاد لصيغ واضحة إزاء الترسانة النووية الإسرائيلية وإزاء المبادرة العربية للسلام. وإلى جانب ذلك وغيره.. تم وضع تسهيلات كبيرة أمام التطبيع مع إسرائيل حين استبعد شرط الإجماع في تنفيذ المشاريع المشتركة، وترك الباب مفتوحا أمام الدول الراغبة في ذلك التنفيذ بغض النظر عن استمرار الطرف الإسرائيلي في التنكر لالتزاماته في إطار عملية السلام.

وعند النظر إلى المصالح الخاصة للدول العربية المعنية مباشرة بالاتحاد من أجل المتوسط، يمكن للمراقب أن يسجل الاستفادة اللبنانية المباشرة من حدث تأسيس هذا الاتحاد الذي ترافق مع انتخاب الرئيس سليمان وتشكيل الحكومة، والتزام سوريا بفتح سفارتها ببيروت، وتكريس هذه الأمور في محفل دولي مهم مثل مؤتمر باريس الأوروبي - المتوسطي.

وإلى جانب لبنان، كانت سوريا الرئيس بشار الأسد كاسبة هي الأخرى في مؤتمر باريس. فقد اضطر الرئيس نيكولا ساركوزي، من أجل إنجاح المؤتمر المذكور وضمان مشاركة عربية واسعة فيه إلى مراجعة مواقفه المناهضة لسوريا، وإلى الاعتراف بدورها وبأهميتها في تحقيق السلام العربي - الإسرائيلي، وإلى دعوة الرئيس السوري إلى زيارة باريس.. وبذلك تكون سوريا قد حققت تقدما ملموسا في تخفيف الضغوط الغربية عليها، وفي الحد من العزلة التي ضربت حولها.

وإذا كانت مناورات الرئيس نيكولا ساركوزي مع الرئيس السوري قد أتت أكلها بالنسبة إلى الجانبين معا، فإن نفس المناورات الفرنسية لم تنجح في حمل الرئيس الليبي على تزكية الاتحاد من أجل المتوسط، على حضور مؤتمره التأسيسي. ولقد ارتفعت أصوات فرنسية معبرة عن الندم إزاء استقبال العقيد الليبي في العاصمة الفرنسية في أواخر العام الماضي. ولأن ليبيا ليست في حاجة إلى مساعدات الاتحاد الأوروبي، فإنها كسبت على المستوى المعنوي والإعلامي عندما رفضت الدعوة الفرنسية، وردت الصاع صاعين للمتحاملين الفرنسيين عليها وفي مقدمتهم وزير الخارجية. وبالإضافة إلى هذا وذاك حاولت تقديم نفسها كمدافع عن إفريقيا والاتحاد الإفريقي في وجه ما تسميه محاولات لشق الصف الإفريقي، وربط قسمه الشمالي بأوروبا.

ولقد وجدت مصر نفسها في وضعية مريحة لأنها لا تجد حرجا في الحضور إلى جانب إسرائيل أولا، ولأنها كسبت رئاسة الاتحاد من أجل المتوسط عن الطرف الجنوبي لهذا الأخير ثانيا، ولأن المسؤولين الأوروبيين اهتموا ببعض مقترحاتها في إعداد المشاريع التنموية المستقبلية ثالثاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"