المحكمة الجنائية الدولية وسيلة جديدة للتدخل الغربي

02:12 صباحا
قراءة 5 دقائق

يخيل للمرء أن المحكمة الجنائية الدولية قد وجدت طريقها إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية، واكتشفت السبيل الذي قد يؤدي إلى إقناع الإدارة والكونجرس الأمريكيين بإعادة النظر في الموقف الرافض والمعارض لنظام روما الأساسي الذي قامت عليه هذه المحكمة، ويتمثل السبيل المذكور في تحويل المحكمة الجنائية الدولية إلى محكمة مختصة بإفريقيا عامة وبالسودان على وجه الخصوص، من خلال إقدام مدعيها العام على إصدار مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة اقتراف جريمة حرب في إقليم دارفور من نوع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد عارضت، مع الاتحاد السوفييتي، قيام هيئة قضائية دولية تتمتع بصلاحيات تتجاوز سيادة الدول في متابعة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأفراد والجماعات التي تتخذ شكل جرائم حرب أو إبادة أو تطهير جنسي أو عدوان. ولكن التطورات الإيجابية التي عرفتها الإنسانية في العقدين الأخيرين أعادت إلى الساحة مشروع الهيئة القضائية الجنائية الدولية، وعززت إمكان إخراج هذا المشروع إلى حيز الواقع رغم الاعتراضات التي أبدتها الإدارة الأمريكية على العديد من مضامين نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية. بل وجدت واشنطن نفسها محرجة أمام التأييد الواسع لهذا النظام، والتحقت في آخر لحظة بلائحة الدول الموقعة عليه في نهاية سنة 2001.

ولكن الولايات المتحدة الأمريكية ما لبثت أن عادت إلى موقفها الرافض والمعارض لقيام المحكمة الجنائية الدولية. وهكذا اندفعت في السادس من مايو/ أيار من سنة 2002 إلى سحب توقيعها على نظام روما. وانطلقت في حملة معادية لتلك المحكمة، رافضة بأي شكل من الأشكال أن تقوم هذه الأخيرة بالنظر في الانتهاكات الجسيمة التي قد يقترفها المواطنون والمسؤولون الأمريكيون في جهات مختلفة من العالم.

واستخدمت الإدارة الأمريكية، من أجل استثناء مسؤوليها وعسكرييها من إمكان المتابعة القضائية التي قد تباشرها المحكمة الدولية، جملة من الوسائل منها إصدار قوانين تحرم على الأجهزة والهيئات الأمريكية المحلية والفيدرالية التعاون مع تلك المحكمة، وتحظر القيام بكافة إجراءات هذه الأخيرة فوق التراب الأمريكي. ولم تتردد الإدارة الأمريكية في إقرار التقليص من مشاركة قواتها في عمليات الأمم المتحدة المتعلقة بحفظ السلام، وحجب المعونة العسكرية الأمريكية عن الدول الأعضاء في المحكمة سالفة الذكر.

وإلى جانب ذلك، استصدرت واشنطن من مجلس الأمن الدولي في الثاني عشر من يوليو/ تموز 2002 قراراً يطلب من المحكمة الجنائية الدولية وقف إجراءات التحقيق أو المقاضاة في الدعاوى المتعلقة بالعاملين السابقين أو الحاليين المنتمين إلى الدول المشاركة في عمليات حفظ السلام الأممية إذا كانت تلك الدول غير أعضاء في نظام روما.

وفضلا عن ذلك كله التجأت الولايات المتحدة إلى توقيع اتفاقيات ثنائية مع عشرات الدول تلتزم هذه الأخيرة بموجبها بعدم تسليم المواطنين الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وإذا كانت إسرائيل، هي الأخرى، قد رفضت توقيع نظام روما والمصادقة عليه، فإنها مطمئنة إلى الدور الأمريكي في حمايتها من متابعات المحكمة الجنائية الدولية لقادتها ومسؤوليها بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها ويرتكبونها في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني.

ولكن تجاهل المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب والعدوان والإبادة المقترفة في جهات مختلفة من العالم، في البلقان وأفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وغيرها، وإقدامه على إصدار مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني عمر البشير بدعوى ارتكاب جرائم حرب وإبادة وتطهير عرقي في إقليم دارفور، يفرضان على الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة النظر في شكوكهما واعتراضاتهما المتعلقة بتلك المحكمة، ويفرضان علينا نحن أبناء الدول المستضعفة، مراجعة مواقفنا من النزعات والمشاريع الداعية إلى تجاوز حدود الدول، والقفز على سيادتها بدعوى حماية حقوق الإنسان ومعاقبة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لهذه الحقوق.

لقد كشفت السنوات الأولى من عمر المحكمة الجنائية الدولية أن هذه الهيئة التي عقدت عليها آمال المدافعين عن حقوق الإنسان والمناهضين للافلات من العقاب غير مهيأة للنظر في جرائم الحرب والإبادة المرتكبة من طرف الغزاة والمحتلين الأمريكيين والإسرائيليين والأوروبيين. ولكنها في مقابل ذلك، جاهزة للقفز فوق الجدران الواطئة، مستعدة للي عنق الحقيقة في السودان، وتحويل صراع دارفور الأهلي والقبلي في طبيعته ومنطلقه، إلى حرب إبادة، والوقوف إلى جانب أحد أطرافه بدعوى أنه إفريقي كأن الأطراف الأخرى غير إفريقية.

ولم يكتف المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية بالقفز على طبيعة الصراع في دارفور، وتجاهل الدور السلبي الذي لعبته التدخلات الخارجية الحكومية وغير الحكومية في تأجيج المواجهات في اقليم دارفور، وفي الإغراء على التمرد، وفي التناسل المتزايد للحركات المتمردة، وفي جنوحها إلى الغلو والتصعيد، بل ضرب بقراره مصالح سكان الإقليم في المصالحة والسلام والاستقرار، وفتح عليهم وعلى السودان بمجمله أبواب الجحيم.

وعلى هذا الأساس، وإضافة إلى الطعون الأخلاقية المسجلة ضد شخص المدعي العام سالف الذكر، المتهم بالابتزاز الجنسي والتعسف الإداري، فإن ضلوعه في المخطط الغربي اللاهث وراء النفط السوداني في دارفور، والمتجه إلى ضرب مكونات الشعب السوداني ببعضها، وتدمير وحدة بلاده ودولته، لن يكون أمراً مستبعداً.

وبالإضافة إلى التهمة الموجهة إلى الرئيس السوداني ونظامه، وهي تهمة ترفضها الكثير من المنظمات غير الحكومية المناصرة لحقوق الإنسان. فإن عواقب اعتقال الرئيس البشير مرتبطة بمخاطر أدهى مما يشهده إقليم دارفور اليوم، ومهددة لاستقرار ووحدة البلاد السودانية بأكملها.

وإذا كان على الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها إسرائيل، أن تضع في بطنها بطيخة صيفية، كما يقول أشقاؤنا المصريون، وأن تهدئ من روعها من المحكمة الجنائية الدولية، بل أن تستعد للاعتماد عليها كوسيلة من وسائل كسر خصومها، وتمرير مخططاتها الهيمنية في إفريقيا، فإن علينا أن نتمهل قليلاً، وأن نعيد التأمل في الدعوات المتعالية إلى تجاوز حدود الدول وسيادتها بدعوى نشر الديمقراطية، وحماية الأقليات وصيانة حقوق الإنسان. ففي ظل هذه الدعوات تم غزو واحتلال أفغانستان والعراق وتهديد استقرار ووحدة السودان، وفي ظل هذه الدعوات أطلقت يد إسرائيل في قهر الفلسطينيين. ومعنى ذلك أن الدعوات إلى تجاوز حدود الدول وسيادتها تسير في اتجاه واحد ووحيد هو دول الجنوب، وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية، ولا تستهدف تنمية هذه الدول وتعزيز استقرارها بقدر ما تستهدف اللعب على تناقضاتها، وضرب مكوناتها ببعضها.

ومعنى ذلك أيضا أن الإنسانية لم تنضج بعد إلى الحد الذي تتوافر فيه المعايير الموضوعية الموحدة، وتتميز فيه مصالح القوى العظمى عن المبادئ والحقوق الإنسانية الأساسية. وفي ظل هذا الوضع ستبقى المحكمة الجنائية الدولية الجديرة بهذا الاسم مجرد حلم لا يزال بعيد المنال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"