ساركوزي الأول وبنديكت السادس عشر

03:41 صباحا
قراءة 5 دقائق

شغلت زيارة بابا الفاتيكان لفرنسا ما بين الثاني عشر والخامس عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري حيزاً واسعاً في مختلف وسائل الإعلام الفرنسية، وحظيت بمعاملة منحازة من قبل أغلب وسائل الإعلام المذكورة، وشكلت مناسبة مواتية للحديث عن وضعية الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في فرنسا، ولكشف التعاطي الإعلامي غير المهني وغير الموضوعي الذي تورطت فيه معظم المنابر الصحافية. والأهم من ذلك أن هذه المناسبة كانت مواتية أيضا لرصد التقارب بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وبابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر، وتمحيص الخلفية السياسية التي ينطلقان منها.

وإذا كانت العديد من الصحف اليمينية على الخصوص قد تحدثت طويلاً عن التأثير العاطفي القوي الذي مارسه بابا الفاتيكان على جموع المؤمنين الكاثوليك الذين احتشدوا لاستقباله وسماع خطابيه، فإن الصحف المذكورة لم تكن قادرة على مناقشة الاستخلاص الموضوعي الذي أكد أن بابا الفاتيكان لم يقدم أية آفاق قادرة على إخراج (الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية) من الكوما التي تعاني منها منذ ثلاثين عاماً، وبأنه لم يعرض أي مقترح جديد من شأنه إيقاف الانهيار الذي يعرفه الاقبال على الترهب، وبأنه إضافة إلى هذا وذاك، لم يعط الدفعة المأمولة للحوار مع بقية الطوائف المسيحية، ومع الاسلام واليهودية كما ورد في افتتاحية يومية لوموند الصادرة في الخامس عشر من الشهر الجاري.

ولم يكن بإمكان المتابعات الإعلامية الفرنسية المنبهرة ببابا الفاتيكان، أن تقفز على المعطيات العنيدة التي تشير الى أن الفرنسيين الذين يعلنون أنهم كاثوليكيون يتناقص عددهم باستمرار ليتراوح اليوم بين 60 و65% من مجموع سكان البلاد، وأن نسبة الذين يتوجهون الى الكنيسة مرة واحدة في الشهر على الأقل، لا تتجاوز 5% من إجمالي المسيحيين الكاثوليكيين. وإلى جانب هذا المؤشر تعرف مجمل المؤشرات المتعلقة بالتعميد أو الزواج أو الرهبنة اتجاهاً انحدارياً متواصلاً، وهو اتجاه أخذت معه الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية تستورد الرهبان من آسيا وإفريقيا.

ولكن التعاطي الإعلامي المنحاز لبابا الفاتيكان ولزيارته الفرنسية لم يمر مرور الكرام، بل ارتفعت عدة أصوات منددة وداعية الإعلاميين إلى التزام الموضوعية والتمسك بالمهنية. ولاحظت الأصوات المذكورة أن الإعلام الفرنسي عامة اعتمد معالجة منحازة عندما نشر المعلومات الرقمية عن أعداد مستقبلي بابا الفاتيكان كما توصل لها من المنظمين، فتجاوز بذلك تلك القاعدة الذهبية التي ظل يتمسك بها حين ينشر تقديرات المنظمين الحزبيين والنقابيين والجمعويين وينشر الى جانبها تقديرات المصادر الأخرى من مراقبين وشرطة.

وانتقدت تلك الأصوات حديث الإعلام الفرنسي عن الكنيسة، في وقت كان عليه أن يتحدث عن الكنيسة الكاثوليكية وألا ينسى أن هذه الأخيرة ليست إلا واحدة من 347 كنيسة مسيحية عضواً في المجلس العالمي للكنائس المسيحية، وأن المسيحيين الكاثوليك يمثلون أقل من نصف المسيحيين في العالم. وفي نفس السياق اعتبرت الأصوات سالفة الذكر أن إقدام بعض وسائل الإعلام على وصف بابا الفاتيكان ب رئيس المسيحية ليس فقط تجنياً على الواقع المسيحي بل إهانة لالآف المسيحيين البروتستانتيين الذين أحرقوا لأنهم قالوا لا لهذا الرئيس. لأن لا رئيس للمسيحية، حسب هؤلاء، غير المسيح نفسه عليه السلام.

وكما سبقت الاشارة، فإن أهم ما يميز زيارة البابا بنديكت السادس عشر لفرنسا كان هو الجدل الذي أثير من جديد حول اللائكية الفرنسية التي تتجه اليها الكثير من الانتقادات باعتبارها شديدة الصرامة إلى حد التطرف والانغلاق، وخاصة إذا قورنت بنظيرتها الانجلوسكسونية الأكثر انفتاحاً على الديانات. وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد دأب على الدعوة إلى ما يعتبره لائكية إيجابية لا تعتبر الدين خطراً بقدر ما تعتبره مكسباً.

وعلى الرغم من أن قانون اللائكية الفرنسي الصادر سنة ،1905 القائم على أساسين: يتمثل الأول في ضمان حرية التدين والعبادة لكل مواطن، ويتمثل الثاني في الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية المجسدة يومئذ في الكنيسة الكاثوليكية، قد تعرض لفهم متشدد ولتطبيقات مغالية أدت أحيانا إلى مواقف معادية للدين ومنافية لحرية التدين.

وعلى الرغم كذلك من وجود نزعات متطرفة في صفوف اللائكيين الفرنسيين الذين يسقطون في الخلط بين اللائكية ومعاداة الدين ودوس حق المؤمنين في ممارسة شعائرهم، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالاسلام والمسلمين.

على الرغم من هذا وذاك، فإن التدقيق في أمر اللائكية الايجابية التي يدعو إليها الرئيس ساركوزي، ويسارع بابا الفاتيكان إلى تأييدها وتحديد مضامينها، يثير الكثير من الأسئلة، ويبعث على الشك والريبة والاتهام أحياناً.

وتقدم خطابات ومواقف الرئيس الفرنسي عناصر ذات أهمية بالغة في كشف خلفية ما يوليه للمسيحية عامة والكاثوليكية خاصة من اهتمام سياسي واستراتيجي. وكان ساركوزي قد صرح، بعد ثلاثة أشهر على تنصيبه، بأن الخطر الأول الذي يتهدد العالم هو المواجهة بين الإسلام والغرب. ولا يبدو أن موقف الرئيس الفرنسي الرافض بقوة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعيد عن هذه النظرة القائمة على المقابلة الصراعية بين الغرب والإسلام. وإلى جانب هذه النظرة الاستراتيجية لا يتردد ساركوزي في إثارة اللبس ببعض الغمزات الموجهة إلى الإسلام والمسلمين بين الحين والآخر.

أما بابا الفاتيكان فإن استراتيجيته القائمة على مواجهة الإسلام واضحة إلى حدود الاستفزاز. ومن علاماتها الكبرى خطابه في راتيسبون سنة 2006 الذي هاجم فيه رسول الإسلام عليه الصلاة السلام، واتهمه على لسان أحد أباطرة بيزنطة بأنه لم يأت بجديد غير السيئ واللاإنساني، وأنه اعترف بأن العقيدة التي يبشر بها لا بد من نشرها بحد السيف. وإذا كان البابا بنديكت السادس عشر قد حاول التهوين من الوقع المدمر لخطابه على حوار الديانات والحضارات. فإن كاتبه الخاص، بادر بعد عام، إلى كشف المكشوف قائلاً إنه يعتبر خطاب راتيسبون، بالنص الذي ألقي به، رؤية نبوئية ثم أضاف أنه لا يمكن تجاهل أسلمة الغرب ولا يمكن تجاهل الخطر المرتبط بتلك الأسلمة، الذي يهدد هوية أوروبا. وفي نفس السياق سبق لبابا الفاتيكان أن أكد أن أوروبا بالنسبة إليه قارة ثقافية وليس جغرافية، أن الثقافة هي التي أعطت لهذه القارة هويتها المشتركة. أما الجذور التي كونت، وسمحت بتكوين هذه القارة فهي جذور المسيحية.

والمثير في الأمر أن عدداً من قادة أوروبا السياسيين والدينيين نسوا الدروس القاسية للتاريخ، وتناسوا أن إقصاء الإسلام وتصفية المسلمين معنوياً وجسدياً في أوروبا القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يؤديا فقط إلى دفن ذلك التعايش الديني والتفاعل الحضاري الذي عرفته الأندلس، بل فتحا الباب على مصراعيه أمام الحروب الدينية ومحاكم التفتيش واضطهاد من لم يغادر من اليهود. وبدل أن يستفيد هؤلاء من دروس التاريخ، ويعيدوا النظر في التجربة الاستعمارية الحديثة وما أدى اليه الاضطهاد الديني خلالها من مظالم لا تزال تعيق النظر الإيجابي إلى أوروبا والغرب، وتعطل تلاقح وتفاعل وحوار الحضارات، بدل ذلك يتجه بعض هؤلاء القادة من جديد إلى استخدام الخوف العتيق والعقيم من الإسلام عامة ومن مواطنيهم المسلمين الأوروبيين خاصة من أجل تأجيج صراع الحضارات، وعرقلة الاستقرار والسلام في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"