هل تبقى روسيا دولة عظمى؟

01:20 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

تواجه روسيا تحديات كبرى ربما لم تعرفها في تاريخها، بالإضافة إلى العقوبات الموضوعة عليها بعد المواجهة مع أوكرانيا، يؤثر انخفاض سعر النفط بشكل أساسي ليس فقط في النمو وإنما أيضاً في الاستقرار المستقبلي للمجتمع الروسي. فالعقوبات تقطع عملياً علاقات روسيا مع النظام المالي العالمي المرتبط بالدولار وتفرض على الدولة الكثير من التقشف. من النتائج المعروفة هبوط الروبل من 31,8 للدولار في سنة 2013 إلى 38,4 في سنة 2014، وارتفاع نسبة البطالة من 5,2% في سنة 2014 إلى 6,5% السنة الماضية. كما أن التضخم ارتفع من 5,1% في سنة 2012 إلى 15,6% السنة الماضية. تضيق العقوبات على الحركة الاقتصادية، وبالتالي تضخم المساوئ التي تكون خفيفة أو غائبة في الزمن العادي. تؤثر هذه المؤشرات في القيمة الحقيقية للأجور كما على المنافع التي تعطى للأيدي العاملة والإداريين خصوصاً تعويضات نهاية الخدمة.

من أهم المؤشرات السلبية انخفاض نسبة النمو السنوي من 4,3% في سنة 2011 إلى 3,4% في سنة 2012، 1,3% في سنة 2013 و 0,6% في سنة 2014. أول التقديرات لسنة 2015 تشير إلى نمو سلبي قدره 3,4% نتيجة انخفاض الصادرات من 523 مليار دولار في سنة 2013 إلى 375 مليار دولار السنة الماضية. ما زال ميزان الحساب الجاري فائضاً نتيجة انخفاض الواردات، إلا أن النتيجة الإيجابية تدنت من 6,3% من الناتج في سنة 2008 إلى 1,6% في سنة 2013. أما الموازنة، فتحولت من فائضة بنسبة 5% من الناتج في سنة 2008 إلى سلبية قدرها 5% من الناتج السنة الماضية. لا شك أن هنااك قطاع أعمال استفاد من العقوبات بشكل شرعي بسبب عدم توافر السلع المستوردة. ارتفعت أرباح شركة «ماك دو» مثلاً لأنها اضطرت لاستبدال السلع المستوردة كاللحوم والبطاطا وغيرها بالسلع المحلية الأقل سعرا. هنالك شركات أخرى استفادت عبر استغلال المواطن ورفعت أسعارها بسبب غياب المنافسة.

ما هي أهم المخاطر التي تواجه روسيا اليوم؟ هل يمكن معالجتها كي تستمر روسيا في لعب الدور الدولي الذي ترغب به والذي يجعلها تشكل نوعاً من التوازن مقابل الولايات المتحدة؟ تشير التجارب الأخيرة إلى أن التوازن الدولي في القوى مفيد خاصة وأن الصين لا ترغب بعد في لعب هذا الدور بانتظار بناء اقتصادها:
أولاً: انخفاض سعر النفط إلى 30 دولارا للبرميل وتأثير ذلك في الصادرات والاستثمارات الداخلية في البنية التحتية وبالتالي في ميزان المدفوعات والنقد. تشير الأوضاع العالمية إلى استمرار سعر النفط منخفضاً نتيجة العرض الكبير إلى ما يفوق مليوني برميل في اليوم نسبة للطلب. هذا يمنع عملياً الحكومة من الاستثمار في تحديث الاقتصاد والمجتمع أي الاستثمار القوي في التعليم والصحة وغيرهما.
ثانياً: ارتباط الوضع الروسي بوجود شخص واحد هو الرئيس بوتين وانعكاس هذا الواقع سلبا على الديمقراطية والحريات داخل روسيا. هذه إحدى خصائص الدول النامية، إلا أننا نجدها واضحة في روسيا. هذا طبعاً مؤشر غير صحي لدولة مهمة ترغب في لعب دور سياسي وعسكري عالمي. لا شك أن هناك صراعاً سياسياً قوياً داخل روسيا ربما يبقى خفياً أو صامتاً، لكن لا بد وأن يظهر إلى العلن عندما يخف وهج الرئيس.
ثالثا: انتشار الفساد الذي يعرقل عمل القطاع الخاص ويجعل من محاولة مكافحته مغامرة كبرى ربما لا يستطيع أحد القيام بها. هنالك قوانين جديدة تفرض على المواطنين الإعلان عن ممتلكاتهم خارج روسيا، وهذا ما يخيف البعض خاصة وأنه يأتي ضمن محاولات مكافحة الفساد التي لم تنجح حتى اليوم.
رابعا: علاقات روسيا مع الغرب والدول المجاورة لها سيئة بسبب المطامع الروسية وسوء إدارة هذه العلاقات. العالم تغير، لكن روسيا لم تتغير بالنسب نفسها. في نفس الوقت، هنالك شعور داخل روسيا يتعلق بالمصالح المشتركة مع الغرب التي ستبقى مستقبلاً قوية وبالتالي عامل الوقت مهم جداً.
خامسا: انخفاض عدد السكان من 148 مليون مواطن في سنة 1992 إلى 143 مليوناً اليوم، وهذا سلبي لدولة ترغب بلعب دور عالمي كبير. ربما تستطيع روسيا استقبال بعض المهاجرين من منطقتنا وغيرها لأنها بحاجة إلى بعض الزيادات السكانية النوعية التي تنعكس مستقبلاً إيجاباً على سوق العمل.
إذا كانت النتائج السلبية واضحة وغير مفاجئة بل دقيقة في بعضها، ما هي عوامل القوة في الاقتصاد الروسي والتي تجعل الإدارة الروسية تتصرف بحرية في سوريا مثلاً وفي علاقاتها مع العديد من الدول بينها إيران؟
أولاً: وجود احتياطي نقدي كبير بالرغم من تدنيه مؤخراً بسبب العوامل التي ذكرنا. بلغ الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية 538 مليار دولار في سنة 2011 ووصل إلى 362 مليار دولار في سنة 2015. بالرغم من هذا السقوط الكبير، يبقى الحجم مهماً ويسمح لروسيا بتمويل إنفاقها الخارجي بسهولة أي 14 شهراً من الواردات وهذا مدهش إذ إن مؤشر السلامة العالمية يوصي بأربعة أشهر فقط.
ثانياً: حتى لو اتكلت روسيا على النفط لتمويل اقتصادها، هذا لا يعني أن الأوضاع ستبقى على ما هي عليه مستقبلاً. روسيا هي من الدول التي تأمل أو تحلم بارتفاع الطلب على النفط وبالتالي ارتفاع الأسعار من جديد. تحاول روسيا التواصل مع مجموعة الأوبيك للاتفاق على تخفيض مشترك للإنتاج، إلا أن المسعى لم ينجح بعد.
ثالثاً: أهم مؤشر قوة هو أن العقوبات لم تؤثر بشكل قوي وموجع في المواطن الروسي، وبالتالي لا يوجد حتى اليوم شعور غضب أو نقمة من الشعب تجاه الرئيس أو الحكومة. وجود كل السلع تقريباً داخل روسيا التي تبلغ مساحتها 1,8 مرة المساحة الأمريكية يسمح لها عمليا بحصول نوع من الاكتفاء الذاتي المفروض قسراً من الخارج. العقوبات المفروضة لا تؤثر سلباً فقط في روسيا وإنما أيضاً في أوروبا التي تدفع التكلفة أيضاً بسبب تدني التبادل التجاري والاستثمارات. تشير الدراسات إلى أن أوروبا تخسر 0,5% من نمو ناتجها سنوياً بسبب العقوبات على روسيا. أمريكا البعيدة ربما لا تشعر بشيء أو فقط بالقليل.
رابعاً: وضعت الحكومة الروسية صندوقاً لمواجهة المخاطر يبلغ 120 مليار دولار يضاف إلى الاحتياطي النقدي مما يطمئن الشعب، بل يجعله يضع ثقته بالحكم في مواجهة الخارج.
خامساً: وقعت الحكومة الروسية عقوداً تسمح لها بالحصول على إيرادات تحتاج إليها. أهمها عقد لتصدير الغاز للصين بقيمة 400 مليار دولار بالإضافة إلى آخر لتصدير النفط والغاز إلى الهند. حشر روسيا في الزاوية عبر العقوبات لا يجعلها تخضع للمطالب الغربية، إنما على الأرجح تجعلها تواجه بقوة أكبر أي تصبح أكثر خطورة. فالإنفاق على الدفاع ما زال مرتفعاً أي في المرتبة الثالثة عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين.
أخيراً، استمرار الرئيس بوتين في الحكم يرتكز على رغبة الروس بذلك. في الحقيقة طالما أن الاستقرار السياسي والأمني متوافر بالإضافة إلى وجود نتائج اقتصادية مقبولة إلى حد بعيد، لن يطالب الروس بالتغيير تحت الضغط الخارجي. لا شك أن روسيا ما زالت دولة عظمة لكن استمرار ذلك يعتمد أيضاً على التنويع الإنتاجي ومحاربة الفساد بشكل فاعل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"