هل يمكن وقف غسل الأموال؟

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أيمن علي*

تزايدت في الآونة الأخيرة الأصوات المطالبة بتشديد إجراءات مكافحة غسل الأموال بعد فضيحة دانسك بنك الدنماركي الذي اعترف بغسل ما يصل إلى 200 مليار يورو عبر حسابات أغلبها لمواطنين روس من خلال فرع البنك في أستونيا. وأدت تلك الفضيحة إلى تسليط الضوء على القطاع المصرفي في دول الشمال الأوروبي المعروف بأنه الأفضل وكان الأقل تأثراً بالأزمة المالية العالمية قبل عشر سنوات. وتأتي أغلب تلك الأصوات، والأعلى بينها، من بريطانيا التي تعتبر نفسها مرجعاً في الممارسات السلمية وأدوات التنظيم والمراقبة والمراجعة في القطاع المالي والمصرفي. ويقف وراء الحملة التي كشفت غسل الأموال عبر دانسك بنك رجل المال الروسي/‏الأمريكي بل براودر الذي دفع الكونغرس الأمريكي قبل سنوات لتبني «قانون ماغنتسكي» بغرض فرض عقوبات على من ينتهكون حقوق الإنسان في أي مكان في العالم.
لكن ما يضاعف من أهمية مشكلة غسل الأموال، أنها تأتي في وقت يتحسب فيه كثيرون من احتمالات دخول الاقتصاد العالمي في أزمة نتيجة عوامل أخرى قد تؤدي كثرة العلل وقتها لمزيد من الركود وربما حتى كساد عالمي. ورغم أن حجم الأموال التي تغسل قد لا يصل إلى نصف في المئة من الثروة في العالم، إلا أن «التفاحة المعطوبة قد تفسد القفص كله». ولا يحتاج اقتصاد يشهد قطاعه المالي غلياناً في سوق السندات ونفاد قدرة البنوك المركزية على مواجهة أي أزمة كتلك التي شهدها النظام العالمي في 2009/‏2008 لزيادة كبيرة في مشاكل القطاع المصرفي بغسل الأموال.
ومؤخراً، نشرت ستاندرد أند بورز تقريراً حول عمليات غسل الأموال، خلاصته أن عدد الحالات المكتشفة أو المشتبه بها في القطاع المصرفي والمالي الأوروبي في 2018 كانت الأعلى مقارنة بأعوام سابقة. ووصف التقرير هذا العام بأنه «سنة غير عادية بالنسبة لغسل الأموال». ولا يقتصر الأمر على الفضيحة هائلة الحجم لدانسك بنك، وإنما على سبيل المثال هناك مصرف ايه بي ال في ABLV
في لاتفيا وفيروسبنك في أستونيا وبيلاتوس بنك في مالطا. فقد أغلق بنك ايه بي ال في مطلع العام إثر تحقيقات أجرتها شبكة الجرائم المالية في وزارة الخزانة الأمريكية. وفي شهر مارس أغلق البنك المركزي الأوروبي فيروسبنك بطلب من السلطات الأستونية، كذلك أغلق بنك بيلاتوس بعد تحذيرات أوروبية.
وربما كان التركيز على تلك البنوك في أوروبا الشرقية ومناطق طرفية أوروبية في الجنوب (مثل مالطا وقبرص وغيرها) يعود إلى استخدامها من قبل الروس الذين يغسلون أموال نهب الثروات العامة أو التجارة غير المشروعة. لكن المثير أن دول شمال أوروبا، التي تتمتع بنوكها بسمعة طيبة تتعرض أيضاً، وربما عبر فروعها في دول أوروبا الشرقية لهزة عنيفة بسبب غسل الأموال عبرها.
لا يعني ذلك أن مصارف ومؤسسات مالية أمريكية وفي غير أوروبا أفضل وضعاً حين يتعلق الأمر بمكافحة غسل الأموال. ففي العام الماضي عانت مصارف ومؤسسات مالية تلك المشكلة وكان عليها دفع غرامات أو عقد صفقات تسوية مع سلطات الرقابة المالية الأمريكية. منها على سبيل المثال لا الحصر: يو إس بنك كورب، وويسترن يونيون، وكومونولث بنك (أستراليا)، وجيه بي مورغان تشيس، وبنك أوف أمريكا، وفيزا...
ورغم التشريعات المالية الجيدة، وقواعد المراقبة والتدقيق في المصارف الكبرى إلا أن هناك عوامل تجعل غسل الأموال عبرها ممكناً، من تلك العوامل ضعف معايير الحكومة والرقابة على العمليات التشغيلية وضوابط المخاطر. ولعل المنافسة القوية في القطاع تزيد من «شهية المخاطرة» بما يجعل التسرب عبر النظام سهلاً. المشكلة ليست في القوانين، إذ إن قوانين مكافحة غسل الأموال الموجودة بالفعل في أغلب دول العالم كفيلة بالحد من هذه المشكلة لكن تطبيق تلك القوانين وتنفيذها ليس جدياً في أغلب الأحوال.ثم هناك غض الطرف المبرر من قبل سلطات في دول كثيرة لأنها بحاجة لدخول تلك الأموال في نظامها والاستفادة من الرسوم وأسعار الخدمات المالية التي يتم تحصيلها.
خذ على سبيل المثال بريطانيا، التي تعد تقليدياً المصدر الرئيسي لكثير من التشريعات المالية التي يستند إليها في وضع اللوائح والقواعد المنظمة في كثير من دول العالم. فمع تصاعد المطالبة بمعاقبة روسيا بعد حادث تسميم جاسوس روسي بريطاني مزدوج في بريطانيا، شنت وسائل الإعلام حملة ضد ثروات وأموال الروس في بريطانيا. وفي النهاية لم يحدث شيء، سوى بعض التضييق على واحد أو اثنين من رجال الأعمال الروس.
المسألة ببساطة ليست عدم كفاية قوانين مكافحة غسل الأموال، ولا نقص في اللوائح والقواعد المنظمة للقطاع المصرفي، إنما هي إمكانية تطبيقها. وفي حالة بريطانيا، فهناك ترسانة من القوانين التي تحمي حقوق أصحاب المال وخصوصيتهم وتمكنهم من تفادي أي نبش في مصادر ثروتهم. وهذا ما جعل بريطانيا قبلة مفضلة لكثير ممن حصلوا ثروات في بلادهم بشكل غير مشروع، وربما لا يمثل الروس سوى نسبة بسيطة من هؤلاء بينما هناك آسيويون وأفارقة من سياسيين سابقين إلى رجال أعمال مشبوهين يغسلون أموالهم في لندن.
وفي وقت تواجه فيه بريطانيا تبعات مالية هائلة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، باتفاق خروج أو بدون اتفاق، يصعب تصور حرمان الاقتصاد البريطاني من بضع مئات المليارات التي يتم غسلها سنوياً في بريطانيا حسب تقدير تقرير حديث للإيكونوميست. وكما تقول الحكمة التقليدية، كلما كثرت القوانين وتشددت تمكن من يريدون الالتفاف عليها من إيجاد طرق جديدة لانتهاكها. لذا ربما يكون من الصعب تصور إمكانية وقف غسل الأموال، وأقصى ما يمكن توقعه هو الحد منها وتقليل حجمها.. إلى حين.

*كاتب صحفي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"