ما أن تدخل من باب الصباح إلى حصن أم القيوين حتى يعود بك الزمن إلى الماضي الجميل، الذي تتقاذفك صوره ولوحاته الفنية الجميلة، وترمي بك إلى أحضان الأجداد وكيف كانت حياتهم تسير في هدوء وحب واحترام متبادل لا يشوبه شيء .
لأنه يعد من أقدم المباني التاريخية في أم القيوين حيث يزيد عمره على 200 سنة، ويقع في المدينة القديمة لأم القيوين، فقد جذب إليه العديد من الزوار الذين لا يملكون سوى التعبير عن دهشتهم حيال ما يشاهدونه في الغرف المغلقة التي كانت أقدام المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن ماجد المعلا تطأها في كل لحظة، بعد أن قام بإرساء قواعد الحصن عندما انتقل من جزيرة السينية إلى أم القيوين، وقرر بناء هذا الحصن ليكون مركزاً للحكم، ومسكناً للعائلة الحاكمة عام ،1768 وظل كذلك حتى عام ،1969 عندما انتقل منه المغفور له الشيخ أحمد بن راشد المعلا إلى سكن آخر .
مكانة خاصة
وللحصن مكانة خاصة في ذاكرة أهل أم القيوين لأنه شهد احتفالاتهم الدينية والرسمية، وكان لبناء الحصن هدف آخر هو درء الأخطار، ويظهر ذلك من خلال التخطيط المعماري له بحيث يمثل خط الدفاع الأول، ما يؤكد أن حكامنا في الماضي كانوا يبنون لنا هذه الحياة التي نعيشها، خاصة أنهم كانوا يتميزون بالحنكة والدراية الشديدة التي جعلتهم يستقرئون واقعهم ويتنبؤون بالمستقبل الذي كانوا يحاولون رسمه في لوحة تختلف عن اللوحة التي كانوا يعيشون فيها إيماناً منهم بأن الأجيال تختلف عن بعضها في نمط الحياة وطريقة التفكير .
ويشكل الحصن مربعاً، وهو مبني من الحجر البحري، ويحتضنه مرتفعان الأول من الجهة الشمالية، والثاني من الجهة الجنوبية، ولأن ذلك الحصن شهد احتفالات رسمية ودينية وارتبط بأذهان الناس فقد قرر المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن أحمد المعلا ترميمه وصيانته وتحويله إلى متحف وطني يضم تاريخ وتراث الإمارات وإضافته إلى الخريطة السياحية والأثرية، ليصبح تابعاً لدائرة الآثار والتراث التي يرأسها الشيخ محمد بن راشد المعلا، الذي أسهم في جعله لوحة تراثية فنية جميلة تأخذنا إلى أحضان الزمن الجميل، وتبث فينا الحنين إلى الماضي، وهي لوحة متكاملة العناصر الفنية، ففيها نرى كيف كانت الحياة في الماضي، وكيف كان الناس يعملون على حل مشكلاتهم، وطريقة العمل اليومي، والسكون الليلي .
وينقسم المتحف إلى قسم لتراث العائلة الحاكمة، وقسم للآثار عبارة عن غرفة للبحر، وثانية للحرف الشعبية التي كانت سائدة آنذاك، وثالثة للسلاح بجانب المطبخ والسجن والعريش والمدبسة .
زيارات في الذاكرة
ويقول الشيخ خالد بن حميد المعلا مدير عام دائرة الآثار والتراث: إن الحصن استقبل العديد من الزائرين على مر السنين من الشيوخ والأمراء والرؤساء، حيث تحتفظ ذاكرته بالعديد من الزيارات المهمة لشخصيات عربية وعالمية كان لها الأثر الأكبر في نفوس أبناء أم القيوين وحكامها .
وفي الحصن غرفة تحتوي على العديد من الهدايا التذكارية التي تقدم في المناسبات للحاكم، بجانب مجموعة من الحلي الذهبية القديمة تعكس اهتمام المرأة بالزينة، وتبين الفن القديم لبائعي الذهب في الخليج العربي، ومدى ملاءمته للنمط الاجتماعي الذي كان سائداً في ذلك الوقت وقدمت تلك المجموعة هدية إلى متحف أم القيوين الوطني من حرم المغفور له الشيخ راشد بن أحمد المعلا، الشيخة شمسة الماجد، إضافة إلى شجرة العائلة الحاكمة وهي مصنوعة من السيراميك المزجج بالذهب الخالص .
ويضيف: لأن للوثائق أهمية تاريخية في حياة الشعوب فقد تم تخصيص غرفة خاصة لعرضها بطريقة علمية، ومنها أول جواز سفر صدر بأم القيوين، وأول رخصة قيادة، وأول رخصة تجارية وبجانبها ختم الحكومة، إضافة إلى أول طابع بريدي صدر في أم القيوين، ومجموعة من المصاحف المخطوطة باليد يعود تاريخها إلى عام 1800 ميلادية .
غرفة الشيخ
ويقول الشيخ خالد بن حميد المعلا: إن غرفة الشيخ تتمتع بروح الأصالة وتعكس العادات والتقاليد العربية الأصيلة، فعند فرشها روعيت الأصول من مقتنيات ولوازم خاصة، حيث كانت تلك الغرفة هي الغرفة الخاصة بالشيخ وتستخدم لراحته، وتشغل الغرفة مكاناً متميزاً وكبيراً في الطابق العلوي للحصن وتطل على الفناء الداخلي، وتحتوي على شبرية من خشب الساج، إضافة إلى المندوس وهو مصنوع من خشب الساج ومنقوش بنقوش معدنية متميزة جعلته يشبه اللوحة الفنية وكان يستخدم لحفظ الملابس، إضافة إلى خزانة النقود والبشتخته، ومجلس صغير للجلوس . ويضيف: إن مقدمة الحصن تحتوي على مجلس للشيخ نظراً لأهمية المجالس في الحياة اليومية، حيث كانت بمنزلة الدواوين المخصصة لكل أنواع الاستقبالات الرسمية والعامة والخاصة، ومن هنا كان الاهتمام بتلك المجالس وقتها، والذي يشمل اختيار مكان متميز للمجلس بحيث يكون قريباً من البوابة الرئيسة .
ويشير إلى أن لمجلس شيوخ آل علي بأم القيوين مكانة مهمة ومتميزة حيث شهد زيارات للعديد من الشيوخ والأمراء والشخصيات العربية والعالمية والوفود الرسمية التي كان يلتقيها الحاكم في إطار العمل الرسمي .
ويقول: إن الغرفة تتمتع بخصوصية شديدة نابعة من العادات والتقاليد العربية الأصلية، وهي معزولة عن الغرف الأخرى، وتتكون من غرفة نوم كاملة من سرير، ومندوس، وصندوق العطور، وسرير الطفل، إضافة إلى الأواني التي كانت تستخدم في الزمن الماضي . ويلحق بتلك الغرفة مجلس الحريم وهو عبارة عن مجلس متكامل الفرش تستخدمه زائرات الشيخة من النساء القادمات للسلام عليها .
شروح بكل اللغات
وتقول علياء الغفلي مديرة المتحف الوطني بأم القيوين: إن المتحف يزخر بآثار لها تاريخ مميز على مستوى الدولة، منها المكتشفات التي ترجع إلى موقع الدور وتل الأبرق، وهي آثار موجودة في القاعتين الثالثة والرابعة من المتحف، مشيرة إلى أن المتحف امتداد طبيعي لجميع الأماكن التي لها تاريخ في الدولة، وأن الزائرين يتوافدون يومياً إليه لاكتشاف الماضي وحياة الناس فيه، ومعظم الزائرين من السائحين الأجانب الذين يحبون التاريخ العربي القديم، في حين أن قلة من العرب هم الذين يحبون مشاهدة ماضي الأجداد .
وتضيف: نحن موجودون لتقديم المعلومة دوماً من دون أن يطلب منا أحد، لأننا فور دخول السائح نصاحبه إلى مختلف جنبات الحصن ونقدم له الشرح الوافي باللغة التي يتحدثها ونفعل ذلك طوال أيام الأسبوع من دون كلل أو ملل لأن الإيمان بماضي الأجداد وما قدموه لنا، سيبقى راسخاً في قلوبنا وفي نفوسنا، خاصة أن من يقرأ تاريخهم يعرف كم كانوا يشعرون بالأجيال الجديدة فرغم العقود التي تفصلنا عنهم إلا أن الحكام من طبيعتهم استشراف المستقبل من خلال قراءة الحاضر الذي كانوا يعيشون، وهي حكمة تنبع دائماً منهم .
ولأنه من هواة قراءة التاريخ والتعرف إلى مفرداته، يقول محمد أحمد المدرس بمنطقة أم القيوين التعليمية والذي التقيناه داخل المتحف إنه زاره قبل ذلك أكثر من مرة بصحبة أسرته، وكان يصر في تلك الزيارات على اصطحاب أطفاله معه لمشاهدة هذا العبق من الماضي الجميل، وكان يحاول أن يبسط لهم في شرحه عن المقتنيات التي يحتضنها المتحف وبين كل معلومة وأخرى كان يدقق في وجوههم باحثاً عن الاندهاش في عيونهم، وهو ما تأكد منه بالفعل عندما تعرفوا إلى الأدوات الخاصة بالمطبخ في ذلك الزمان وكيف كان يتم الاحتفاظ بالأطعمة في المطبخ، مؤكداً أنه يشعر بهذا الزمن البعيد، ويكاد يرى الحاكم جالساً وسط الناس في مقدمة الحصن يستمع إليهم وفناجين القهوة يقدمها الساقي للموجودين.
