“البحيص” فسحة ضوء على تاريخ الإ نسان القديم

تعود إلى عصور سحيقة
12:52 مساء
قراءة 9 دقائق

تعتبر منطقة البحيص، والتي تضم منطقتي جبل البحيص والبحيص ،18 فسحة ضوء حقيقية على تاريخ الإنسان القديم، الذي عاش في هذه المنطقة قبل سبعة آلاف عام تقريباً، بما وجد فيه من لقى أثرية مهمة وغنية، وتم العثور عليها، حيث تعكس دقائق حياة ذلك الإنسان والطرق والعادات التي كانت متبعة في عمليات الدفن، وغيرها من تفاصيل الحياة، حيث ساعدته على إيجاد حلول لمشكلات بيئته، بالإضافة إلى إشارتها إلى إجراء عمليات جراحية معقدة مشابهة للتي تحدث في يومنا هذا.

الشارقة - محمد رضا السيد:

تقع منطقة البحيص في القطاع الأوسط من إمارة الشارقة، أو ما يعرف اليوم بمنطقة سهول المدام القريبة من مدينة الذيد، والتي تبعد 60 كيلومتراً من ساحل الشارقة، فيما تتوسط البحيص المسافة بين الساحلين على الخليج العربي، وخليج عمان، وتحديداً 50 كيلومتراً من الجانبين، ويرتفع جبل البحيص حوالي 340 متراً فوق مستوى السهل المجاور، ويتكون الجبل من طبقات كلسية، تعود إلى العصر الجيولوجي إلى 65 مليون سنة مضت.

وللتعرف أكثر إلى الموقع، التقينا الدكتور صباح عبود جاسم، مدير إدارة الآثار بمتحف الشارقة للآثار، والذي تناول التنقيب في موقع (البحيص 18)، من قبل باحثين من إدارة آثار الشارقة، وبالتعاون مع جامعة توبنغن الألمانية، ممثلة بكل من البروفيسور هانس أوربمان، وزوجته الدكتورة مارجيريت أوربمان، بالعثور على بيانات واستنتاجات كثيرة، ظهرت من عمليات التنقيب التي بدأت عام ،1995 وانتهت عام ،2005 حيث تم العثور على لقى أثرية كثيرة أخضعت للتحاليل المخبرية المتخصصة في هذا المجال، ومازالت تخضع إلى هذه التحاليل المخبرية للتوصل إلى استنتاجات غنية، تسهم في التعرف بشكل أكبر إلى حياة القدماء في منطقة الشارقة.

وقال جاسم: تقع منطقة جبل البحيص في سهل المدام، الواقع في القاطع الأوسط من إمارة الشارقة، وتم تنقيب سلسلة من المواقع كانت قد استخدمت لأغراض السكن والدفن، وجدت على مستويات مختلفة في سفوح جبل البحيص، وتم حتى الآن تنقيب ما مجموعه ثمانية وسبعون موقعاً، ومدفناً، أضيف كل رقم منها على كلمة البحيص، لتعبر عن مدفن او ينبوع أو موضع هيكل عظمي، ومنها البحيص 18 و8 و12 و،66 وتعود إلى فترات زمنية مختلفة ابتداء من عصور ما قبل التاريخ، منذ بداية الألف الخامس ق.م، والعصرين البرونزي والحديدي، وما قبل الفترة الإسلامية، واللقى الأثرية والهياكل البشرية تعتبر ذات أهمية تاريخية، في كشف المشكلات التي كانت تواجه سكان البحيص القدماء، والحلول التي توصلوا لها في هذا المجال، وتعتبر ذات أهمية وصلة وثيقة بيومنا الحاضر، حيث تمكنوا من إيجاد معايير عالية فيما يخص العلاقات الأسرية، التي انعكست في طقوس الدفن لديهم، وأصبحت هذه الفضائل تمثل جزءاً مهماً من تاريخ العادات والتقاليد العربية المملوءة بالثناء والتمجيد، وكل هذا تم دون أن يدمروا بيئتهم الطبيعية التي تختص بها منطقتهم.

واستعرض الدكتور صباح جاسم سلسلة التنقيبات الأثرية المكثفة خلال السنوات القليلة الماضية التي شهدتها سفوح جبل بحيص والمنطقة المحيطة به، وأسفرت عن اكتشاف مقبرة واسعة تضم قبوراً عديدة تعود إلى فترات زمنية مختلفة، ابتداء من العصر الحجري الحديث، مروراً بالعصرين البرونزي والحديدي وإلى العصر الهلسنتي.

وأشار إلى أنه باستخدام الكربون الإشعاعي تم تأريخ عمر المنطقة إلى بداية الألف الخامس قبل الميلاد، وهو ما يُطلق عليه مدافن العصر الحجري الحديث.

واعتبر أنه من المهم الإشارة إلى الكهوف المحيطة والمأوى الصخرية، التي تتوفر بصورة طبيعية على سفوح الجبل لأغراض الدفن أيضا بعد تحصينها بإضافة جدران حجرية أخرى، وتحويلها إلى حجرات مناسبة لأغراض الدفن، وتم العثور داخل هذه الكهوف على أعداد كبيرة من الهياكل العظمية، وعدد كبير من اللقى الثرية خاصة الأوعية الفخارية، والتي تحمل بصمات العصر الحديدي وأسلحة معدنية منها رؤوس السهام البرونزية، ويحمل بعضها حزوزاً زخرفية أما علامات الفترة الهلنستية، فكانت عددا من الأواني الزجاجية ذات الأشكال المتميزة.

ولفت إلى أن هذا الموقع يتكون من مقبرة كبيرة ومواقع مجتمعية مجاورة، وتدل المكتشفات الجديدة على وجود مجاميع من الرعاة المتنقلين في شرق الجزيرة العربية، وذلك خلال فترة سبقت بكثير ظهور أول مستوطنات مستقرة في المنطقة، وكان هؤلاء الرعاة يجوبون السهول شبه الصحراوية المنتشرة على طوق جبال الحجر مع قطعانهم المكونة من الأغنام والماعز والماشية والتي كانت مصدر تزويدهم بالحليب واللحوم، مشيراً إلى أنه رغم أن حيوان الجمل لم يكن قد دجن بعد في تلك الفترة المؤرخة إلى بداية الألف الخامس ق.م، ومع ذلك عُثر على كسرات من عظام جمل مما يدل على وجود الجمال البرية في تلك المنطقة وأنه تم اصطيادها بين حين وآخر، كما تم اصطياد المها العربية والغزلان والحمر الوحشية.

وأكد أن سكان تلك المنطقة لم يهتموا بإقامة دور سكن لهم، ولا حتى خيام أو مظلات قوية، وعُثر في الموقع على العديد من مواقد النار المصنوعة، وهي عبارة عن حفر سطحية مرصوفة بحصى كبيرة الأحجام، ولا زالت ممتلئة بطبقات سميكة من رماد أسود اللون وهي البقايا الوحيدة التي تشير إلى الفعاليات اليومية البشرية، إلا أن ما شجع سكان المنطقة، الذين وفدوا إليها قبل 7 آلاف سنة مضت وشجعهم على البقاء فيها أو على الأقل على زيارتها بشكل متكرر، وجود ينبوع ماء، إلا أنه تعرض للجفاف في حوالي 4000 ق.م، فأصبحت المنطقة موضعاً استخدم لأغراض الدفن من قبل هؤلاء القوم، ويبدو أن المكان ظل قيد الاستعمال لفترة زمنية طويلة حيث دفن في المكان ما يقارب 1000 شخص في موقع صغير، لا يتجاوز قطره 20 متراً عند سفوح الينبوع القديم، وتدل عادات الدفن إلى احترام الأسلاف، ونوع من العقيدة التي تلعب فيها الشمس دوراً مهماً، لأن الأفراد المدفونين كانت رؤوسهم متجهة نحو الشرق الذي يمثل اتجاه شروق الشمس.

وأشار إلى أن المقبرة احتوت على أكوام عظمية غير مرتبة طبيعياً، تشير إلى أن أصحابها كانوا قد توفوا في مكان آخر، وتركت أجسادهم لتتفسخ في منطقة أخرى، ثم التقطت العظام بعد فترة لاحقة وجلبت ليتم الدفن أخيرا عند سفح الجبل في المقبرة الأم، وأطلق الخبراء على هذا الدفن دفناً ثانوياً، أما الأفراد الذين ماتوا في الموقع أو على مقربة منه، فنالوا دفناً مهيباً في قبور سطحية، وهم مضجعون على جوانبهم وقد طويت سيقانهم وأذرعهم، وكان معظمهم قد دفن وهو يرتدي زينته المؤلفة من قلائد عديدة تتكون من آلاف الخرز المصنوع من أحجار ملونة وأصداف وحبات اللؤلؤ، وغالباً ما احتوت القبور على أكثر من شخص واحد وتدل ترتيباتهم أحيانا على وجود صلة قرابة بينهم.

وكشف أنه تم العثور على قبر يحتوي على هياكل عظمية تعود لامرأتين ورجل واحد كانوا ممدين على جوانبهم إلى جانب بعضهم بعضاً، وكان الرجل يتوسط المرأتين وكان يضع ذراعه اليسرى على وسط السيدة الممدة أمامه، وكان الثلاثة يتزينون بقلائد من الخرز والأصداف، وفي قبر آخر عثر على خمسة أشخاص ممدين إلى جانب بعضهم بعضاً، ووضعت ذراع كل منهم على جسد الآخر في وقت الدفن، وأن تحليلات المختبرات التي أجريت على عينات الحمض النووي، التي أخذت من بعض الهياكل دلت بأنهم كانوا يرتبطون بعلاقة قرابة، وكانوا يرتدون كامل زينتهم ومن المثير للدهشة أن السيدة الأولى في مقدمة الخمسة هياكل ارتدت خرزة عقيق في أنفها، في حين ارتدت أخرى حبة لؤلؤ في شفتها السفلى.

من جانبه تناول الدكتور هانس أوربمان بعض دلائل آثار بحيص ،18 أولها ما كشف عنه من عمليات جراحية شديدة الصعوبة، وقال إن من أكثر المكتشفات الأثرية أهمية وإثارة في البحيص، عمليات التثقيب الجراحية، حيث تم فيها إبعاد العظم عن الجمجمة (القحْف)، للتخفيف من الآلام الناجمة عن الجروح في الدماغ أو الأمراض، وتم العثور على ثلاث جماجم يظهر فيها استعمال هذا النوع من الجراحة، حيث استعملوا الصوّان المشذب حديثاً في عمليات الكشط والتثقيب، وإحداث الشقوق في الجمجمة، واستعملوا الصوّان كأداة معقمة نسبيّاً للتقليل من حدوث الالتهابات، كما تشير الدلائل إلى ترجيح أنهم قاموا باستعمال بعض المواد المخدرة من أنواع معينة من الأعشاب لتخفيف الآلام.

كما تشير الدلائل إلى أن الجروح التي خلفتها هذه العمليات الجراحية في اثنين من ثلاثة مرضى شفيت تماماً، ولكن البعض منها كان سبباً للوفاة، ولابد أن نشير إلى أن بعض الأفراد المدفونين، تعرضوا لإجراء عملية تطلبت فتح الجمجمة لإزالة ورم خبيث على ما يحتمل، الأمر الذي يعد إنجازاً حقيقياً في تلك الفترة التي يعود تاريخها إلى ما يقارب 7 آلاف سنة مضت، ومن هنا فإن إجراء هذا النوع من العمليات يقود إلى حقيقة أن مزاولة هذا النوع من العمليات في البحيص حينئذ، يشير إلى وجود مجتمع منظم ذي مهارات فنية وفكرية خاصّة فيما يتعلق بالعناية والرعاية الطبيتين.

وفي تفسيره لطقوس الدفن التي أشار إليها الدكتور صباح قال: يبدو أن طقوس الدفن في البحيص كانت تحتل أهمية كبيرة لأصحابها، فالمدافن كانت تجعل مطالبة الرعاة البدو بهذه الأراضي، ومواردها الرعوية والنبع شرعية وتجيزها لهم، وأشارت اللقى إلى أن أوائل سكان هذه المنطقة آمنوا بالحياة بعد الموت، ولذلك تم دفنهم مع ممتلكاتهم الثمينة لكي يستعملوها في حياتهم الأخرى.

وقد تم العثور على عدد هائل من الزينة الشخصية في المدافن الرئيسة غير المبعثرة، حيث عثر على ما يقارب 5 آلاف صدفة لحلزونات، و19 ألف خرزة مختلفة، من ضمنها عدد من الخرز الأنبوبي المصنوع من الصدف الأبيض، وحجر الصابون الأسود والرمادي، كما عثر على مجموعة من بعض الخرز ذي الشكل البرميلي وغيرها من الأشكال، إضافة إلى عدد من اللآلئ والحجارة شبه الكريمة كالعقيق الأحمر، وهذا كله يؤكد أهمية البحر بالنسبة إلى بدو البحيص.

وأشار هانس إلى أن عملية الحفاظ على الهياكل العظمية في البحيص تتصف بعدم الثبات، رغم أن الهياكل بدت متكاملة إلاّ أن الكثير من عظامها كان متكسراً، وهو ما جعل عملية التنقيب عن عينات مكتملة أمراً مستحيلاً ولهذا السبب قرّروا إنتاج نسخ مطابقة باستعمال قوالب ثلاثية الأبعاد.

وأخيراً أشار إلى أنه لا يمكن التكهن عن أسباب موت أكثر من شخص في وقت واحد في زمن كانت الدلائل تؤكد تمتع الناس بمستوى غذائي جيد وصحة قوية، ولكنه ألمح إلى إمكانية أن حياة الرعاة في سهول المدام لم تكن ترفل بالسلام، وربما كانت النزاعات القبلية سبباً لتفسير الموت المتزامن لعائلات كاملة في آن واحد.

إلكا شخط، مدير متحف الشارقة للآثار، أكدت أنه لأهمية موقع البحيص نظم المتحف معرضاً يقدم عرضاً متميزاً لمعلومات تاريخية، قيمة تتضمن نماذج من الهياكل العظمية، والطريقة المميزة التي استخدمت في عمليات دفن الموتى، بالإضافة إلى عرض بعض المكتشفات التي تشير إلى الطرق التي كانوا يستخدمونها في عمليات التزيين وصناعة العقود، وهدف إلى تعريف الحضور وجمهور المتحف إلى أشهر الحيوانات التي كانت موجودة في تلك الفترة.

وأضافت نظم المتحف محاضرة مشتركة لفريق البحث والتنقيب قدمها البروفيسور هانس أوربمان من جامعة توبنجن الألمانية، والدكتور صباح جاسم، خبير الآثار بالمتحف بعنوان البحيص في الصحراء خلال العصر الحجري الحديث، استعرضا فيها موقع جبل البحيص وعمليات التنقيب في مقبرة البحيص التي قام بها فريق من الباحثين بقيادة الدكتور صباح جاسم، مدير إدارة آثار الشارقة، وبالتعاون مع جامعة توبنجن الألمانية حيث تم الكشف عن ما يقارب مائة مقبرة، تعود الى فترات تاريخية متباينة بدءاً من العصر الحجري وحتى حوالي 200 قبل الميلاد.

وأكد عيسي عباس مراقب المسح والتنقيبات الأثرية بالشارقة، أن منطقة جبل البحيص وأماكن أثرية أخرى لها علاقات تجارية قديمة مع الدول القديمة المزدهرة في حقب التاريخ المختلفة، وكان هذا الحديث من خلال ورقة بحث تحت عنوان (الشواهد الحضارية للعلاقات التجارية القديمة بين مملكة البحرين والإمارات من خلال المكتشفات الأثرية في الشارقة) أوضح فيها أن العلاقات التجارية ما بين الحضارات القديمة تعد عنصراً مهماً في التواصل، معتبراً أن المواد التي تم الاتجار بها من أهم الشواهد على تلك العلاقة.

وقال: على الرغم من تنوع اللقى الأثرية في المواقع الأثرية بالإمارات إلا أن بعض المكتشف من هذه المواد الأثرية له أهمية في العلاقة مع مملكة البحرين، وهي التي ترسم الشواهد التجارية القديمة بين المنطقتين. وقال إن المكتشفات تتنوع في فتراتها التاريخية، حيث إن بعضها يعود لفترة دلمون والآخر لفترة تايلوس، والمواقع التي يمكن سردها تقع ضمن مواقع الشارقة، وتل أبرق وجبل البحيص ومليحة ودبا وكلباء.

وطرح عيسى كيفية وصول مواد دلمون وتايلوس لبحر العرب، وخليج عمان موضحاً أنها تبين خروج التجارة من نطاق حوض الخليج العربي إلى مناطق أبعد، وكذلك وصول بعض الأختام الدلمونية إلى المناطق الداخلية من الشارقة مثل موقع جبل البحيص والذي يبعد عن ساحل الخليج العربي 50 كم. وقال إن العلاقات التجارية يمكن توزيعها على عدة فترات وعلى الرغم من الفترة الحضارية الطويلة ،إلا أنه يمكن تقسيم هذه المواقع لفترتين هما المواقع ذات العلاقة التجارية بدلمون وهي (تل أبرق- كلباء- جبل البحيص)، والمواقع ذات العلاقة التجارية بتايلوس وهي (مليحة- دبا)، والعديد من البلدان المجاورة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"