الأمم المتحدة أمام امتحان الجائحة

02:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

سدد الرئيس ترامب ضربة قاصمة للتعددية، بانسحابه من عدة اتفاقات متعددة الأطراف، وعزوفه عن العمل الجدّي في المؤسسات الدولية المتعددة.

صحيح أنه لم يكن أحد ليتخيل هذا الشلل العالمي بسبب جائحة كورونا والذي يشبه توقف الأرض عن الدوران. لكن بفضل التكنولوجيا الحديثة، كان بإمكان قادة العالم أجمع أن يسارعوا للاجتماع عن بعد بحثاً عن استراتيجية مشتركة لمواجهة هذا الخطر المشترك. والأمم المتحدة بصفتها المسؤولة عن صيانة السلم والأمن الدوليين، على ما يقوله ميثاقها، هي المؤهلة لقيادة مثل هذه المواجهة.

وقد سعت في الحقيقة، للقيام بدورها عبر الشروع في تنظيم اجتماع دولي عن بُعد، انطلاقاً من مقرها في نيويورك في 13 مارس/آذار الماضي. لكن الدول العظمى هي التي تلكأت وانتظرت قبل أن تبدأ الاهتمام بالموضوع الذي هز المعمورة وشكل «التحدي الأخطر» للمنظمة الدولية منذ إنشائها في العام 1945، بحسب ما أعلنه أمينها العام أنطونيو جوتيريس.

اللقاء الأول عن بُعد حول كورونا حصل في 9 إبريل/نيسان الماضي، في وقت بدأ فيه الفيروس بقتل عشرات الآلاف في العالم وتوقيف المصانع وتعطيل الاقتصادات وحجر مليارات الناس في بيوتهم. وكل ما خرج عن هذا الاجتماع الافتراضي بيان صحفي تم نشره عبر الفيديو.

هذا النص «الكاريكاتوري»، كما وصفه أحد الصحفيين والذي بالكاد تخطى الدقيقة الواحدة، عبّر عن دعم قادة العالم «لكل الجهود التي يبذلها الأمين العام في مواجهة الجائحة»، ويذكّر «بالحاجة إلى الوحدة والتضامن مع كل الذين أصابهم الوباء». وقد شارك جوتيريس في هذا اللقاء إلى جانب ممثلي الدول الخمس عشرة الأعضاء في مجلس الأمن، وقال بأن الجائحة «تهدد الأمن والسلم الدوليين، وبالتالي فإن مواجهتها تقع في صلب سبب وجود الأمم المتحدة نفسها»، وكرر النداء الذي أطلقه في 23 مارس/آذار بوقف إطلاق نار عالمي.

مجدداً عصفت الخلافات بين الدول الكبرى بمجلس الأمن. فقد كانت الصين تتولى رئاسته الدورية في مارس/آذار المنصرم وعمل سفيرها زهانج جون، ما بوسعه لمنع أي نقاش يتعلق بالجائحة على اعتبار أنها سوف تنتهي مع قدوم الربيع. الصين لم تكن تريد أن تتدخل الدول الأخرى في موضوع الوباء فتسائلها عن عملها وتحاسبها أو تفرض عليها أشياء معينة، ومن جهتها واشنطن لم تكن تريد أن تكون المناسبة لتفاخر الصين بجهودها في محاربة الوباء، ونجاح نموذجها السياسي والصحي.

ثم إن الصين لا توافق على أن الجائحة تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين كما أعلن الأمين العام جوتيريس، لذلك بقيت النقاشات في مجلس الأمن خلال مارس/آذار الفائت، محصورة بالنزاعات المختلفة القائمة في العالم وليس حول الوباء الذي يمثل تهديداً غير مسبوق لهذا العالم.

لقد بدت الصين والولايات المتحدة أكثر اهتماماً بتوجيه الانتقادات لبعضهما البعض منه بمكافحة الوباء. هذا الصراع الصيني-الأمريكي في مجلس الأمن والذي حاولت فرنسا التدخل لحله من دون جدوى، عطل الجهاز الأعلى «للحوكمة العالمية» أي مجلس الأمن، الأمر الذي دفع بست دول من خارجه إلى مبادرة انتهت بتبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة لقرار غير ملزم، يؤكد التمسك بالتعددية وضرورة

التوصل إلى موقف عالمي قائم على الوحدة والتضامن في وجه الآثار غير المسبوقة للجائحة.

المفارقة اللافتة أنه في وقت تكوّن فيه لدى البشرية وعي مشترك بالخطر المحدق بها وضرورة مواجهته، وفي وقت اختارت عشرات الدول الحجر والتباعد الاجتماعي، فإن مجلس الأمن وهو المولج بالأمن الدولي كان غائباً تاركاً الأمر لقرارات الدول كل بحسب ما ترتئيه في مواجهة الوباء. إنها لحظة حقيقة مرة لهذه التعددية التي كان من المفترض والمنطقي أن تقويها الجائحة لا أن تسرّع في تراجعها.

هذا الشلل الذي أصاب مجلس الأمن في مواجهة «كورونا» ليس سوى محطة جديدة في مسار طويل من الإخفاقات سببه حق النقض-الفيتو الذي تمتلكه الدول الخمس دائمة العضوية والذي طالما كان سبباً في إعاقة قدرة المجلس على اتخاذ القرار، وذلك خلال الحرب الباردة كما بعدها.

لقد سدد الرئيس ترامب ضربة قاصمة للتعددية بانسحابه من عدة اتفاقات متعددة الأطراف، وعزوفه عن العمل الجدّي في المؤسسات الدولية المتعددة. وبذلك فإن المنهج التعددي الذي قامت عليه العلاقات الدولية منذ العام 1945 صار موضع تشكيك ليس فقط من قبل واشنطن بل موسكو وبيجينج أيضاً. وقد ذهب ترامب إلى حدود بعيدة في ممارسة الأحادية والانعزالية فبدت بلاده وللمرة الأولى في تاريخها المعاصر منغلقة على نفسها، ما دفع محللين لاعتبار كورونا بأنها «الأزمة الكبرى الأولى في العالم ما بعد- الأمريكي».

جماعة السبعة، على سبيل المثال، لم تجتمع إلا بمبادرة من الرئيس الفرنسي ماكرون الذي اتصل بنظيره الأمريكي مرتين في بدايات مارس/آذار ليقترح عليه وضع أزمة «كوفيد-19» في رأس جدول أعمال القمة المقبلة للجماعة في كامب ديفيد. واقترح ماكرون اجتماعاً عن بُعد للزعماء السبعة وقام بتنظيمه، رغم أن ذلك من واجب ترامب الذي يتولى حالياً الرئاسة الدورية للجماعة. وعلى كل لم يخرج الاجتماع الافتراضي بأكثر من بيان مقتضب، وهذه كانت حال اجتماع جماعة العشرين الافتراضي برئاسة السعودية في 26 مارس/آذار.

لم يعد النقاش قائماً حول إصلاح مجلس الأمن فالأمل بات مقطوعاً في هذا المجال، رغم ذلك فإن الأمم المتحدة التي اجتازت أزمات كثيرة متنوعة، تبقى رغم مكامن ضعفها وإخفاقاتها مكاناً للاجتماع والنقاش والبحث عن التسويات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"