«قتل» التماثيل في الغرب

03:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. غسان العزي

التاريخ ليس جامداً ومحفوراً في رخام التماثيل أو على لوحات أسماء الشوارع. لقد حطمت الثورات تماثيل الملوك والأباطرة والدكتاتوريين.

لم تقف ردود الفعل على قتل جورج فلويد عند حدود الاحتجاجات والتظاهرات في الولايات المتحدة وبعض المدن الأوروبية، فهناك حركة معادية للعنصرية «تَتَعَوْلَمُ» عبر اندفاعة تستهدف «أيقونات» العنصرية في التاريخ الغربي عموماً، والأمريكي على وجه الخصوص. هذه التماثيل التي تخلد ذكرى تجار العبيد الذين لم تكن «حياة السود مهمة» بالنسبة إليهم، أضحت اليوم رموزاً ممقوتة وعقبة تنبغي إزالتها من طريق العيش المشترك.

المتظاهرون الأمريكيون ورفاقهم في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا، يطالبون «بموت» التماثيل التي أضحت بمثابة أوثان تمثل بالنسبة إليهم ليس فقط ثقافة مهيمنة؛ بل تاريخ المهيمنين أنفسهم. والذين يطالبون بذلك ليسوا المستَعمرين؛ بل مواطنين في دول ديمقراطية حديثة من كل الأصول والجذور يشعرون بالمهانة أمام هذه التماثيل؛ نظراً لتاريخهم وولعهم بالمساواة.

تمثال الجنرال روبرت لي في ريشموند عاصمة الجنوب في فرجينيا، أو إدوارد كولستون في بريستول في إنجلترا، أو جان باتيست كولبير أمام الجمعية الوطنية بباريس، هؤلاء الذين كانوا شخصيات مهمة في تاريخ مجيد أضحوا رموزاً ممقوتة في تاريخ معيب.

في معرض تبريره لقرار إزالة تمثال الجنرال لي، بطل حرب الانفصال الجنوبي المؤيد للرق، يقول لونار ستوني، عمدة مدينة ريشموند في فرجينيا، وهو من أصحاب البشرة السوداء، إن ذلك يشكل «ضرورة في مسار الشفاء من جروح الماضي».

ويصف جيفرسون دافيد الرئيس الانفصالي الذي أطاح المتظاهرون تمثاله أمام أعين البوليس ب«العنصري والخائن». تمثال الجنرال لي الضخم صنع في فرنسا وشُيّد عام 1890 في حقبة تشريع الفصل العنصري، وقد أضحى المكان المفضل لتجمعات اليمين المتطرف العنصري في الولايات المتحدة.

وحتى تمثال كريستوفر كولومبوس مكتشف أمريكا لم ينج؛ إذ قام متظاهرون من حركة «حياة السود مهمة» بحرقه في ريشموند وآخرون بقطع رأسه في بوسطن؛ ذلك أنهم يتهمونه بفتح الطريق أمام إبادة الهنود سكان البلاد الأصليين.

والحقيقة أنه منذ ثمانينات القرن المنصرم تزايد العداء لكولومبوس، فعشرات المدن الأمريكية استبدلت الاحتفال ب«يوم كولومبوس» في أكتوبر من كل عام، بيوم تمجيد ذكرى سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر.

في بريستول بإنجلترا يعتبر العمدة اليساري مارفن ريز، أن تمثال إدوارد كولستون الذي كان من كبار تجار العبيد في القرن السابع عشر، «إهانة» له ولأمثاله. هذا التمثال الذي أسقطه المتظاهرون ورموه في النهر، استعادته السلطات لتضعه في متحف في انتظار أن تبت مجموعة من المؤرخين بمصيره، ذلك أن الرجل وإن كان من كبار تجار العبيد فإنه كان أيضاً من كبار فاعلي الخير في المدينة، وهذا النقاش حوله يدور منذ زمن طويل دون نتيجة.

النقاش نفسه عاد إلى الحياة في فرنسا خاصة حول إنزال تمثال كولبير الضخم من أمام الجمعية الوطنية. فكولبير كان المحرض الأول على «قانون السود» الذي وضع إطاراً قانونياً للرق في المستعمرات الفرنسية في عهد لويس الرابع عشر.

التاريخ ليس جامداً ومحفوراً في رخام التماثيل أو على لوحات أسماء الشوارع. لقد حطمت الثورات تماثيل الملوك والأباطرة والدكتاتوريين، وكثيراً ما يتم استبدال أسماء شوارع ومحطات مترو وحافلات وغيرها، بأسماء أخرى لأسباب سياسية، وأخرى مرتبطة بعلاقات مع دول أو مراجعة لحقب تاريخية.

في أمريكا تطلب الأمر كثيراً من الجمهور والمطالبات من أجل وضع اسم مارتن لوثر كينج على شوارع رئيسية في مدن كبرى.

في أوساط الأنتلجنتسيا يدور النقاش حول الذاكرة الجمعية التاريخية منذ عقود طويلة، حول الحقبة الاستعمارية التي مورست خلالها كل أنواع القمع والرق والاستعباد والاستغلال، وهو نقاش ما يزال بعيداً عن الحسم، لكنه اكتسب زخماً جديداً مع قضية فلويد. هناك من يعترض على إزالة التماثيل وغيرها؛ لأنها ترمز إلى حقب تاريخية مهما كان رأينا فيها تمثل جزءاً لا يتجزأ من عملية تشكل الهوية المجتمعية والسياسية كما هي عليها اليوم.

في فرنسا يقول المعترضون إنه إذا كان ينبغي تحطيم رموز الرق والاستبداد وغيره، فينبغي عندئذ تدمير قصر فرساي العظيم؛ لأن من بناه وسكنه هو لويس الرابع عشر؛ أحد أكبر رموز الاستبداد في التاريخ الإنساني. ويضيف هؤلاء أن قراءة التاريخ من خلال المجهر العرقي خطأ فادح يقود إلى مستقبل صعب.

فمثلاً في 22 مايو الماضي، قام متظاهرون في مارتينيك الفرنسية، بتدمير تمثال فكتور شولشر، وهو من كبار المناضلين من أجل إلغاء الرق في عام 1848، وذلك بذريعة أن ثورات العبيد هي التي قادت إلى إلغاء العبودية وليس مجرد نائب أبيض.

وهكذا، فإن وضع شولشر في مرتبة تجار العبيد يقود إلى «عرقنة» التاريخ الذي لا يغدو وقتئذ صراعاً بين المهيمنين والمهيمَن عليهم، أو بين المدافعين عن المساواة والمؤيدين للعبودية؛ بل بين البيض والسود، وهذا خطأ فادح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"