أين تكمن مصلحة لبنان؟

03:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

بإمكان اللبنانيين الاستغناء عن مفردة الحياد، والاستعاضة عنها بأي كلمة أو عبارة أو مصطلح آخر مما يؤدي الغرض ويحقق الهدف، وهو في الحالين تجنيب لبنان سياسة المحاور

ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها في بلد الأرز طلب حياد لبنان. فهذا المطلب يتكرر طرحه بين آونة وأخرى وبالذات في أوقات الأزمات، ولدى احتداد المآزق، كما هو الحال هذه المرة حين أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي قبل أيام دعوته إلى حياد بلده. وحيث ثارت ضده حملة شعواء تكاد تتلخص في عبارة يتم ترديدها منذ نصف قرن على الأقل: يريدون للبنان أن يكون محايداً أمام «اسرائيل»!. علماً أن طرح الراعي يذهب في اتجاه آخر، وهو السعي لضمان استقلال بلده، وتجنيبه انعكاس الصراعات البينية العربية عليه، وقبل سنوات قليلة تنادى جمهرة من السياسيين اللبنانيين للدعوة بالنأي عن النفس عن الصراعات الداخلية العربية ولم يشكك أحد حينها في سلامة الدعوة أو فحواها الوطني.

لم يتحدث الرجل عن أي موقف يخالف الإجماع العربي، كما تعكسه قرارات القمم العربية والمواقف التي تعبر عنها الجامعة العربية. وبالتالي لم يدعُ إلى أي حياد حيال المخاطر الخارجية التي تهدد لبنان والمنطقة العربية. وتسترعي الانتباه في لبنان حروب الألفاظ والكلمات، حيث تنزاح الخلافات الفعلية ويجري السجال حول كلمات بعينها: فحواها مدلولاتها وتأويلاتها، وكلمة الحياد هي إحدى أكثر الكلمات التي تستجر جدلاً وسجالاً في هذا البلد. وكان بوسع القائل بالحياد استخدام مفردات أخرى للتعبير عن وجهة نظره التي يتلاقى حولها طيف واسع من اللبنانيين، غير أنه استخدم هذه الكلمة بالذات التي كانت تتردد في الماضي على ألسنة وأقلام كتل يمينية، ورغم أن معنى الكلمة تغير في الظروف المستجدة، إلا أن المعترضين سرعان ما أخذوا عليه ما اعتبروه محاولة طمس وجه لبنان العربي، والوقوف موقف الحياد بين الأصدقاء والأعداء، والتساوق مع الطروحات الأمريكية.

لقد ارتفعت هذه الدعوة في ظروف أزمة اقتصادية طاحنة، ومع الضعف الذي اعترى علاقات لبنان العربية، ومع الشعور العام بأن لبنان بات في شبه عزلة عن الخارج، وأن المخارج لمواجهة الأزمة باتت في حُكم المسدودة، وأن الدعم الدولي لهذا البلد بات مقترناً بتحقيق إصلاحات توقف الفساد والهدر، وهو ما عبّر عنه بعبارات صريحة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في الزيارة التي أداها مؤخراً لبيروت. وأمام ذلك ارتفعت الدعوة مجدداً إلى تحييد هذا البلد عن أزمات المنطقة.

ومن يطالع البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية بما فيها الحكومة الحالية برئاسة حسن دياب يلحظ التزاماً بالنأي عن الصراعات العربية، فقد ورد في بيان هذه الحكومة أمام مجلس النواب:«إن لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النّار المشتعلة حوله في المنطقة بفضل وحدة موقف الشّعب اللبناني وتمسّكه بسلمه الأهلي. من هنا ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجيّة ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربيّة» وهذه العبارات واضحة وتمثل أعلى التزام رسمي، علماً أن أحداً لم يصنف هذا البيان بأنه انزلاق إلى الحياد الممقوت!.

وتتعدد الوثائق التي تجمع على أهمية تجنيب هذا البلد مخاطر الانغماس في الصراعات والأزمات، ومنها على سبيل المثال «إعلان بعبدا» الصادر في يونيو /حزيران 2012 عن هيئة الحوار الوطني، وقد ورد في هذا الإعلان بين بنود أخرى الالتزام ب:«تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة».

وقد وقّعت على هذا الإعلان سائر القوى السياسية في حينه ملتزمة ب «التحييد». ومغزى ذلك أن البطريرك الماروني لم يأت بجديد ولم يخترع شيئاً من عندياته، وكل ما في الأمر أنه يلحظ من موقعه الروحي أن وضع لبنان ليس في أحسن أحواله وليس كما يجب، وأنه لم يعد يلقى احتضاناً عربياً أو دعماً دولياً ملحوظاً، كما كان عليه الحال في عقود سابقة، وقد أدى ذلك إلى أزمة مركّبة وثقيلة ينوء سواد اللبنانيين تحت وطأنها.

بإمكان اللبنانيين الاستغناء عن مفردة الحياد، والاستعاضة عنها بأي كلمة أو عبارة أو مصطلح آخر مما يؤدي الغرض ويحقق الهدف، وهو في الحالين تجنيب لبنان سياسة المحاور، ورفض الاستتباع لقوة إقليمية أو دولية، ففي ذلك تكريس لسيادة البلد واستقلاله واستقراره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"