الكارثة.. والتغيير

03:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

سوف يمضي وقت طويل وربما لعقود قبل أن تفارق صورة كابوس مرفأ بيروت الأذهان، فما حدث يوم 4 آب (أغسطس) هو جريمة كبرى موصوفة أريد بها اغتيال مدينة هي واحدة من أهم الحواضر العربية والمراكز الحيوية في الشرق الأوسط. وقد شعر اللبنانيون من جميع المناطق ممن يقيمون في عاصمتهم، أن أذى جسيماً وبليغاً قد استهدفهم مقروناً بمحاولة توجيه إهانة لحقّهم في الحياة والنماء والاستقرار.
وها هي الأنباء تترى عن عشرات الآلاف ممن أصبحوا بلا مأوى نتيجة الضرر الشديد الذي لحق بمنازلهم، وفي مناطق تضم أساساً شرائح واسعة من الطبقة الوسطى. وتضاف مأساة التشريد هذه، إلى صعوبات الأزمة الاقتصادية الطاحنة ومخاطر انتشار وباء كورونا، وفقدان إهراءات القمح في المرفأ .
وقبل ذلك كله وبعده تبرز مأساة أكثر من 150 ضحية وفقدان العشرات، وإصابة نحو خمسة آلاف شخص. وتضرر أعداد بلا حصر من المؤسسات بينها أربعة مستشفيات، ومقار الأعمال والمحلات التجارية والسيارات، وهي كارثة تفوق في هولها يوميات الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
وإذ حظي هذا البلد المميز بتعاطف واسع ومبادرات الغوث والعون الطبي، واستعداد برنامج الغذاء العالمي لتزويده بمادة القمح، فإن صدمة اللبنانيين لا تهدأ، وذلك إزاء واقعة تخزين كمية هائلة من المواد شديدة الخطورة في مرفق مدني يتاخم مركز المدينة السكني والتجاري طيلة ستة أعوام مضت. وقد بدا هذا التقصير الخرافي مختزلاً لحال التسيب والاستهانة بالصالح العام. وهو ما عمّق نقمة اللبنانيين، الذي شعروا أن الأرض تُسحب من تحت أقدامهم. وأن لاشيء يحميهم من غوائل الجوع والمرض، وصولاً إلى تهديد حياة الناس أفراداً وجماعات.
وقد كان أمراً لافتاً أن يتم استقبال الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون بحرارة شديدة، إذ بدا الناس بحاجة لمن يلجأون اليهم في هذا العالم بعد أن استبد بهم اليأس. وكان الضيف الدولي على درجة من النباهة، إذ التقط حاجات الناس وتقييمهم للوضع العام، فالكوارث لا تأتي أبداً من سياسات صالحة وإدارات رشيدة وأداء سليم، حتى كاد الضيف يشاطر مستقبليه الحديث عن الفساد الذي ينخر دولتهم ويدفع ثمنه جميع اللبنانيين.
ولأن المسؤولين عن الكارثة لا يمكن أن يحظوا بالثقة في معالجتها وتحديد المسؤولين عنها، فقد تحدث الضيف بمثل ما تحدث به فرقاء محليون كُثر عن أهمية إجراء تحقيق دولي، وذلك حتى يمكن استخلاص عبرة مما حدث وتحديد الفاعلين المباشرين ومن يقف خلفهم، بعيداً عن أي اعتبارات ضيقة أو ضغوط داخلية مستترة، وذلك بالنظر إلى واقع لبنان الذي تتشابك فيه خيوط المصالح المحلية والإقليمية.
وأبعد من هذا، فإن الكوارث التي شهدت ذروتها في انفجار المرفأ المروع، قد تأسست على أوجه خلل وإعطاب في إدارة الحياة العامة، مما يوجب البحث في عقد اجتماعي وسياسي جديد يضمن قيام دولة القانون والفصل بين السلطات، والسعي إلى سن قانون انتخاب يبتعد عن المحاصصة الطائفية وهذا هو السبيل الوحيد لإنهاء ظاهرة أمراء الطوائف ومتنفذيها، وهو المطلب الذي صدحت به حناجر آلاف المحتجين من سائر الطوائف والمناطق منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
لمن المفارقات أن يحظى زعيم دولة أجنبية بحفاوة شعبية كبيرة، وأن يشق طريقه بين الصفوف الشعبية المحتشدة، بينما يقبع رموز الدولة وزعماء الطوائف بعيداً عن هموم الناس وعن نداءاتهم ومطالباتهم بتغيير شامل ينقذ هذا البلد من المصير الذي يحيق به كدولة فاشلة. وليس من شك في أن التغيير قادم إلى هذا البلد، فالجهات المانحة والمهتمة، سوف تتولى الإشراف على تقديم أوجه الدعم والمساندة ورعاية المشاريع وبرامج الإنقاذ، نتيجة اهتزاز الثقة إن لم يكن انعدامها، مما ينبئ عن فراغ مؤسساتي وانسحاب الجهات الرسمية، فضلاً عن كون الدعم الطويل الأمد سيكون منوطاً بإجراء تغييرات ملموسة وفعلية تتماشى مع معايير النزاهة والحاكمية الرشيدة، ومنع التدخلات الأجنبية في هذا البلد .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"