حملة استهداف الإيغوريين

04:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

رغم أن الطائفة الإيغورية معترف بها من السلطات، ورغم أن الإقليم يتمتع بحكم ذاتي، فإن ما يشبه حملة ثقافية استئصالية قد جرت ضدها.

إلى جانب التقدم الصناعي والاقتصادي، وتضييق رقعة الفقر إلى أضيق نطاق، والحد من البطالة، فقد خطت الصين في العقدين الأخيرين خطوات أولى على طريق التخفف من التزمت الأيديولوجي والجمود العقائدي، فأصبح الحزب الشيوعي أقرب إلى حزب قومي عريض يضم في صفوفه أعضاء من منابت فكرية شتى، وبعيداً عن استخدام لغة تقليدية مثل الأعداء الطبقيين، ومن غير تأثيم الرأسمالية أو تبخيس العمل الذهني قيمته، أو التبشير بدكتاتورية عمالية حسب الرؤى الأولى لرواد الماركسية. وقد انعكس هذا التخفف على إيقاع الحياة الذي أصبح أكثر تنوعاً ومفعماً بالألوان، قياساً إلى النمط الماوي الذي كان يتسم بالأحادية في التفكير والتعبير، وفي نمط اللباس والطعام والشراب. كما انعكس الأمر على علاقات الصين بدول العالم وشعوبه، في القارات الست؛ حيث تم نسج العلاقات الصينية معها وفق المصالح المتبادلة، وبالاعتداد بميثاق الأمم المتحدة، وبالأحكام العامة للقانون الدولي.

يسوق المرء هذه المقدمة العجلى، قبل الخوض في مسألة هي حساسة لدى الصينيين، كما للكرامة البشرية في كل مكان، وتتعلق بفيض الأنباء والتقارير عن احتجاز أكثر من مليون صيني من أقلية الإيغور المسلمة، في ما تمت تسميته مراكز تدريب، والمقصود مراكز تأهيل لنزع الأفراد والعائلات من نمط حياتهم ومن مرجعيتهم الروحية، ومنعهم من أداء شعائرهم الدينية. وأغلبية هذه التقارير ليست صينية المصدر، كما أن الصين نفسها لم تفتح الباب أمام وسائل الإعلام للقيام بجهد استقصائي وموضوعي يتعرف إلى ما يجري حقاً في إقليم تشنجيانغ إلا ضمن تقييدات شتى..

وفي تلك الأثناء نشرت بكين تقارير تأخذ على تلك الأقلية ما أسمته ميولها الانفصالية. من غير التطرق إلى الهوية العقائدية والحقوق الدينية لتلك الأقلية. ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن يتقبل المرء اتهاماً ذا مضمون سياسي لأقلية كاملة تضم النساء والأطفال والمسنين، كما يصعب على الإدراك البشري السليم تقبل احتجاز عدد هائل يربو على المليون نسمة، والعمل على تغيير نمط حياتهم وتفكيرهم بطريقة قسرية؛ إذ إن هذه الممارسات لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، بل هي ضرب من ضروب التعسف العقائدي الشديد.

لم تسمح بكين للأسف الشديد لمراقبين دوليين من الأمم المتحدة أو من منظمات دولية يعتدّ بها مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي)، بالتعرف إلى أحوال هذه الأقلية. إضافة إلى عدم تمكين وسائل الإعلام الأجنبية من الاقتراب من تلك المناطق. الأمر الذي غذّى الأخبار والتقارير التي تفيد بالتعامل مع أفراد هذه الأقلية كرهائن؛ إذ إن باحثين أكاديميين وإعلاميين يصلون بشق الأنفس، ويسعون لجلاء الصورة عما يحدث منذ نحو أربع سنوات، حيث تقام العشرات من معسكرات الاعتقال، وذاك عقاباً على اتهامات غامضة، تتمحور حول اعتناق الدين الإسلامي وربط هذا الدين بصورة أوتوماتيكية بالإرهاب.

وتختلط المسميات لمراكز الاحتجاز بين مراكز تأهيل، إلى مراكز تعليم، إلى معسكرات احتجاز، ويوصف البعض بأنهم قد تخرجوا من تلك المراكز. أي أنهم أكملوا تعليمهم بنجاح، لكنهم لا يظهرون بعدئذٍ في أي مكان. ورغم أن الطائفة الإيغورية معترف بها من السلطات وذلك من ضمن 55 أقلية أخرى، ورغم أن الإقليم يتمتع بحكم ذاتي، ورغم عدم وجود مظاهر للتمرد أو العنف أو التعبئة ضد السلطات من طرف الإيغوريين، فإن ما يشبه حملة ثقافية استئصالية قد جرت ضدهم على مدى الأعوام الأربعة الأخيرة لتدمير هويتهم، ولتقويض كل خصوصية ثقافية أو روحية يتمتعون بها، وكي يكون هؤلاء عبرة لغيرهم من الأقليات العرقية والدينية.

وحسب مركز أبحاث أسترالي نقلت عنه وكالة الأنباء الفرنسية، فإن عشرات المساجد في الإقليم قد تم هدمها، ولم تسلم حتى المقابر والأضرحة من التدمير والتسوية على الأرض، وهو أمر يثير العجب لفظاعته، ولأن الصين لم تشهد مثل هذه الحملة الاستئصالية إلا في ذروة التشنج العقائدي. وبطبيعة الحال وبصرف النظر عن هوية الضحايا فإن المرء يقف معهم؛ لأنهم ضحايا، ولأن الحقوق الدينية والروحية باتت من حقوق الإنسان الأساسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"