المتلقي الخفي

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

القراءة فن التفكيك والتحليل والمتعة، وربما التمرد، أو الاكتشاف، فالقارئ ليس شخصاً واحداً يختزل في التعريف بالألف واللام، «القارئ».. القارىء هو مجموعة أشخاص يختلفون في طبائعهم وسلوكاتهم وأمزجتهم ومعارفهم، وبناءً على ذلك؛ فالتعريف يشير إلى عالم غير مكتشف حتى بالنسبة للكاتب؛ ذلك الذي يقدم ذاته على أنه يوجه «رسالة»، أو «فكرة»، للمتلقي؛ بل ويأخذه الظن، بأنه على علم تماماً بما يريد القارئ، ويخدع نفسه بأنه قادر على كيفية النفاذ إليه؛ لكن ذلك ليس بالأمر اليسير، وتظل العلاقة بين القارئ والمقروء، يتحكم فيها جدل ومنطق خفي غير واضح، فالقارئ لا ينتظر من المؤلف أن يكتب له بصورة خاصة، أو أن يداعب أمانيه ورغباته؛ بل يفترض في هذا القارئ أن يمتلك هدفاً مختلفاً في التعاطي مع الكتاب، وعلى الكاتب أن يزيح فكرة القارئ من ذهنه، ويضع نصب عينيه الفكرة التي يتناولها؛ لأنه إن اهتم بالقارئ ربما سيكتشف أنه يحمل ادعاء زائفاً وغير حقيقي، وليس له أهمية، وهذا يجعل العلاقة بين الكاتب وجمهور القرّاء محتشدة بأفكار ومشاعر الوصاية والرغبة في التوجيه وغير ذلك من المشاعر والأفكار السالبة.

إن المتلقين، أو القرّاء يختلفون في الكثير من الأشياء، منها: تباين الفئات العمرية، واختلاف الأمزجة والاهتمامات وطرائق التفكير، وهنالك الاختلاف في المعارف والتعليم والتوجهات النفسية والفكرية، بالتالي نحن أمام خليط من البشر المختلفين، فنجد أنفسنا أمام لغز يصعب الإحاطة به، لا من الكاتب ولا من قبل المؤسسات المهتمة بالنشر والكتاب، غير أن ذلك لا يعفي من ضرورة وجود توجه مؤسس يستهدف الإحاطة بالمتلقين، لا يشتغل في المؤلفات فقط؛ بل في المتلقي بصورة أكثر تخصصية، عبر الدراسات النفسية والفكرية والاجتماعية. 

عملية الاهتمام بالقارئ مهمة بالنسبة للكاتب وضرورية، ولكنه ليس ذلك الاهتمام النمطي والمعتاد الذي يفرض الوصاية على القارئ، ويخرب المعادلة بين التأليف والتلقي؛ بل هو اهتمام يشبه ما نظر له ومارسه مؤلفون كبار راعوا أن يكون القارئ حاضراً داخل النص، وهو حضور جدلي؛ يقود إلى اكتشافات جديدة في الموضوع مثار الاهتمام، وهو ما يعرف ب«القارئ الضمني»، وهذه العملية تجعل من أي منجز نصاً مفتوحاً يتوسع ويكبر؛ بفعل التفاسير والتأويلات التي يقدمها والتي تقدم إضاءات هائلة أمام المتلقي  القارئ، وتجعله شريكاً في كتابة النص.

ولقد هدفت الكثير من الأفكار والتأسيسات النظرية إلى فحص العلاقة بين القارئ والنص، ومن أهم تلك المجهودات الفكرية والنقدية، «نظرية التلقي»، والتي ظهرت في وقت متأخر من القرن الماضي، وقد عنيت بعملية استقبال نص ما وتفسير ما يتضمن من المعاني من قبل متلقيه، وقد وجدت تطورها من قبل منظرين كبار أمثال: هانز روبرت جوس، ولفنجانج أيزر، واهتمت بمقولات كثيرة مثل «موت المؤلف»، والتي اشتغلت على مضمون العلاقة بين القارئ والنص؛ حيث أكدت أن أي موضوع هو قابل للقراءة المتعددة، والتأويل والتفسير بحسب تجربة وخبرة ومعارف القارئ، بالتالي شكل ذلك الأمر وجهة نظر جديدة، وخلق واقعاً مختلفاً في التعامل مع المتلقي، ومن أهم الذين لعبوا دوراً مهماً في ذلك الحقل؛ هو هانس روبيرت ياوس، والذي جعل القارئ يحتل مكانة مركزية، في عملية التلقي، فهو لم يعد ذلك الدور السلبي في علاقته بالنصّ؛ بل أصبح مشاركاً في صنع جمالياته ومعانيه، عندما طرح مفهوم «أفق القارئ»؛ أي الفضاء الخاص بالمتلقي الذي تتم فيه عملية بناء المعنى.

ولا شك أن كل تلك المجهودات النظرية حول المتلقي، تشير إلى أن ثمة علاقة جديدة خفية بدأت في التشكل بين القارئ والنص، والمتلقي والكاتب، ولا شك أن من ثمار ذلك الجدل، أن ثمة قارئاً جديداً قادماً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"