في شبابك، تكون أحلامك كثيرة وكبيرة، مزدحمة في رأسك، كأن عقلك وبدنك لا يتسعان لها. متداخلة حيناً، ومتباعدة أحياناً، تركض أمامك وأنت سعيد باللهاث خلفها بلا تعب، بل تقطف من البساتين المجاورة بعض الأحلام العابقة بروائح التميز والطموح والعنفوان، لتشعر بأن فوق كتفيك أحمالاً وجبالاً من السعادة.
تستغرب ابتسامات من سبقوك على هذا الدرب وأنت تحدثهم بكل شغف عن بعض من تلك الأحلام، تحسب أنهم لا يفهمون، لا يصلون إلى حيث ارتقيت أنت بأفكارك وخيالك، فتحتفظ لنفسك بباقي الأحلام، وتمضي لتجد من يكون على قدرها، فيليق بكما المشوار والحديث وتسلق جبال المستقبل.
لا تعرف أن هؤلاء المبتسمين إنما يرون في حماسك صور الماضي، ولكثرة لهاثهم باتوا يعرفون أكثر حتى صارت جبال المعرفة فوق أكتافهم أكبر من تلال الأحلام التي انطلقوا بها في بداية سباقهم في ميادين الحياة. فقدوا بريق الدهشة، تساقطت منهم طموحات وهم يركضون مثلك، وقفوا عند محطات كثيرة، وفي كل محطة أفرغوا بعضاً من الأحمال المحملة بالأحلام كي يتمكنوا من مواصلة الرحلة.
يبتسمون لأنهم باتوا يعلمون أن هناك من الأحلام ما نقفل عليه الصندوق ولا يعود صالحاً للاستخدام، وأن للحياة أحلاماً أخرى ترسمها لك، بعضها يكون أجمل وأبعد مما تخيلت. ويعلمون أن من أحكام الدنيا علينا، أنك كلما استقمت في مشيك كلما كان جبل أحلامك كبيراً وعالياً، وكلما كبرت أنت وانحنى ظهرك، كلما صغر جبل الأحلام وتضاءل إلى أضيق الحدود.
تصغر الأحلام كلما كبر الإنسان، فما حاجته بالحلم وقد عبر سنوات طوالاً محملة بالإنجازات والإخفاقات، ومكدسة بالخبرات ما يكفي لتعليم أجيال؟ تلك التلال التي حملها فوق الكتفين صنع منها حرفة، شيد بيتاً، فرشها دروباً يسير عليها أبناء وأحفاد.. لم يعد فوق الكتفين متسع للأحلام، فالأمنيات صارت أكبر، مشغولة بيدين ترفع الصلاة، والدعاء، والرجاء.
غريبة الحياة، كلما صغرت الأحلام أدركت أنك مشيت كثيراً، وتعثرت كثيراً، وصنعت كثيراً، ونجحت كثيراً.. وأيقنت أن الأحلام لا تتحقق دائماً ولا تتجسد كلها أمام عينيك وتصير واقعاً، لأنك لم تدرك في بداية مشوارك أنك لست وحدك من يحلم، فالحياة تخبئ أحلامها لك لتفاجئك وتغير مسارات، وتعيدك للوراء ثم تدفعك بقوة للأمام.
عن الكاتب
المزيد من الآراء
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا
