عصر غياب المعنى

00:41 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تعرضت فكرة النخبة في نهايات القرن العشرين إلى نقد مرير طرحه كثير من المثقفين العرب من الماء إلى الماء، فكتب اللبناني علي حرب «أوهام النخبة.. أو سقوط المثقف»، والسعودي عبدالله الغذامي «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي»، والمصري جلال أمين «عصر الجماهير الغفيرة»، وغيرهم. وعلى الرغم من اختلاف التوجهات وطرائق التحليل، فإن الأهم هنا هو ذلك الجدل الخفي الذي انطوت عليه تلك الرؤى ويتمثل في سؤال: هل انتهى عصر النخبة المثقفة، تحديداً، نتيجة لأزمة واجهتها، أم لأن البشر ليسوا بحاجة إليها؟.

كانت إشكالية النخبة المثقفة الأساسية في علاقتها بالبسطاء تتلخص في ذلك اللغز الأبدي: كيف يمكن الوصول إلى الناس والتأثير فيهم؟، بغرض الارتقاء بذائقتهم الجمالية ووعيهم. وبغض النظر عن تلك الخلافات الطاحنة التي دارت حول هذا الهدف، ودفعت مفكراً مثل علي حرب إلى السخرية من المثقف بالقول إنه أصبح ذلك الشخص الذي يحتاج إلى تنوير، فإن معطيات الواقع تؤشر إلى أن النخبة توارت إلى حد كبير، حتى لا نقول اختفت، وحل مكانها عصر جديد بالمعنى التاريخي، لبشر يصنعون ثقافتهم بأنفسهم عبر الفضاء الإلكتروني بأبعاده المختلفة.

هذا التحول التاريخي الذي يتجاوز رأينا فيه، أو قدرتنا على تغييره، فلن يستطيع أحد منع عجلة التقدم التكنولوجي، أدى إلى تدهور الثقافة بمعناها «النخبوي»: الفكر، الأدب.. وهو الملمح الأساسي الذي يلاحظه معظمنا، ولكن الإشكالية الحقيقية ليست هنا، فالأخطر يتمثل في انحطاط الثقافة بمعناها العام: اللغة وقدرة الإنسان العادي على التعبير ومخرجات التعليم وأسلوب الحوار والوعي بأبسط الأشياء، وتدني الأخلاق وصعود الغرائز وانتشار الكذب والنميمة بمستويات غير مسبوقة، وهي مفردات تتوحش رويداً رويداً حتى تحتل الجزء المضيء في الفضاء الإلكتروني.

إن الخوف المتعلق بالمستوى المتدهور للرواية أو الفكر أو الشعر، وهي منتجات كان كثيرون يرونها رفاهية أو وجع رأس، أصبح الآن من الماضي. فالثقافة الحياتية نفسها في خطر؛ أي كل ما له علاقة بالتحضر، هل نقول إن فطرة البشر أنفسهم على وشك التغير، فهناك أولئك الذين باتوا يشاهدون الجرائم في الشارع ولا يهمهم إلا تصويرها ونقلها على مواقع التواصل الاجتماعي وساعدهم، للأسف، الإعلام في ذلك.

عندما امتلك المجتمع نخبة ثقافية قوية، فإنها على الرغم من كل عيوبها، انتجت أفكاراً محلقة، تأثرت بها الطبقة الوسطى في التعليم والإعلام، وتسرب بعضها إلى البسطاء. في الماضي انتشر الجهل، ولكن كان أصحابه، يشعرون به، ومن ثم يخجلون منه أو يحاولون مداراته، الآن انعكس الوضع وأصبح من لديه معرفة أو وعي أو رؤية هو الذي يبتعد ويصمت.

لم نكن يوماً ملائكة، ولكن الحدود كانت واضحة بين الجدية والمزاح؛ العلم والجهل. لقد انمحت تلك الحدود في الراهن، ويصبح السؤال الذي طرحناه في البداية حول أسباب اختفاء النخبة المثقفة بلا أهمية في عصر يغيب عنه المعنى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"