عادي

ثيربانتس.. حياة قاسية لا تخلو من فروسية

22:26 مساء
قراءة 3 دقائق
3

القاهرة: «الخليج»

إذا قارنا حياة ثيربانتس (21 سبتمبر/ أيلول 1547 – 22 إبريل/ نيسان 1616)، بحياة المشاهير من معاصريه، أمثال لوبي دي بيجا وكالدرون دي لابركا وكيبيدو، يتملكنا الأسى مما عاناه من بؤس وحرمان في سنيّ نضجه، صحيح أنه اكتسب شهرته في أخريات حياته، لكنها لم تخفف من عوزه، ولم تضعه في المكانة التي يستحقها بين أدباء عصره، وكان لوبي دي بيجا قاسياً في سخريته منه حين قال: «لا يوجد بين الشعراء من هو أسوأ من ثيربانتس، ولا من بين الحمقى أحمق ممن يثني على صاحب دون كيخوته».

قال آخر: «إذا كان ثيربانتس يكتب من أجل كسب لقمة العيش فالأفضل أن يستمر فقيراً هكذا»، ورغم السخرية، لم يخفت وهج إبداعه، بفضل روحه الوثابة وثقته بموهبته، واعتداده الشديد بنفسه، وظل يكتب حتى وافته المنية. وقد عابه معاصروه لأنه لم يحصل على شهادة دراسية، ومع هذا فإن الدراسة المتأنية لأعماله، تكشف عن عمق ثقافته وقراءته الواعية للتراث الإسباني، ولإنتاج مؤلفي عصر النهضة الكبار، وخير دليل على ذلك إشاراته المستمرة إلى كل من أرسطو وأفلاطون وهوراسيو، إضافة إلى كثير من الكتّاب الإسبان.

ولما دخل القرن السادس عشر كانت الجيوش الإسبانية تغزو المغرب، لمقاومة التوسع العثماني، ويشارك ثيربانتس في هذه الحروب، ويشهد الانهيار السريع الذي كانت تسير نحوه إسبانيا، وانتهاء أسطورة الأسطول البحري الإسباني على يد نظيره الإنجليزي، وشاهد كثيراً من المعاقل الإفريقية التي احتلها الجيش الإسباني تسقط واحداً تلو الآخر، ولمس بنفسه فوضى الإدارة الداخلية وضعف النفوذ الخارجي، بما أوشك معه أن ينطفئ مجد إسبانيا، ما كان له أبلغ الأثر في نفس وكتابات ثيربانتس.

تضم كتابات ثيربانتس ألفاظاً عربية الأصل، وأحاديث عن المسلمين، ويتوزع إبداعه بين الأجناس الأدبية الرئيسية في عصره: الشعر والمسرح والقصة، لكن شهرته كروائي طغت على أعماله، واختلف النقاد في تقييمه شاعراً، فبينما يذهب البعض إلى حد الثناء عليه، نجد آخرين يقللون من شأن أعماله الشعرية، وفي الحقيقة أنه شاعر متوسط المستوى، ولا ترقى موهبته الشعرية إلى براعته النثرية المتمثلة في فن القص، وقد اعترف هو نفسه بقدراته المحدودة في هذا المجال، حين قال: «لا أكف عن العمل والمثابرة/ لاجتلاء موهبتي شاعراً/ وهي الملكة التي حرمتني منها السماء».

وفي عام 1605 صدر الجزء الأول من «دون كيخوته» بينما ظهر الجزء الثاني من الرواية بعد عشر سنوات، وكان ثيربانتس يشبه إلى حد كبير بطله، فقد كانت حياته محلقة في سماء الفروسية والمثاليات، لكنها سرعان ما اصطدمت بأرض الواقع المخيبة للآمال، حيث ولد عام 1547 وكان الابن الرابع بين سبعة أبناء لأب يعمل طبيباً، وحين كان عمره 22 سنة تم تجنيده بالجيش، إبان وصوله إلى إيطاليا، وفي مواجهة مع الأسطول التركي جرح في المعركة، وأصيبت ذراعه اليسرى.

عاد بعدها إلى إسبانيا فهاجم القراصنة الأتراك سفينته في عرض البحر، وأسروه هو ومن معه، ثم حملوهم إلى الجزائر، وظل في الأسر لمدة خمس سنوات، حتى افتدته إحدى الجمعيات المسيحية الخيرية، ليعود إلى وطنه وهو في الثالثة والثلاثين، ليبدأ مرحلة أخرى من حياته، كان خلالها متعطلاً فقيراً، ولم يبق أمامه إلا القلم ليعيش منه.

وبعد سعي طويل وجد ثيربانتس وظيفة تتمثل في جمع القمح وتوريده للأسطول الإسباني، وتسبب ذلك بدخوله السجن مرتين، لأخطاء نسبت إليه في تأدية عمله، وإن كان قد تبين فيما بعد براءته منها، وحاول السفر إلى العالم الجديد، لكن محاولته باءت بالفشل، فقد رفضت السلطات سفره إلى هناك، ورغم الشهرة التي نالها بعد صدور الجزء الأول من «دون كيخوته» فإن آلامه لم تنته، ويكفي أن واحداً من المعاصرين له أخرج جزءاً ثانياً مزيفاً من الرواية، وصاحبها حي يرزق، وهذا الاجتراء جعله يسرع بإصدار الجزء الثاني الحقيقي منها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"