عادي

وليام رايش.. حياة مفكر متشرد

22:51 مساء
قراءة 4 دقائق
3

القاهرة: «الخليج»

لم يكن وليام رايش مفكراً أو محللاً عادياً فقد برع في شتى الميادين النفسية والبيولوجية والفيزيائية والسياسية، ووضع حولها وعنها 126 كتاباً، لم يترجم منها إلى العربية سوى أربعة كتب تقريباً، إضافة إلى كتاب مهم عنه للدكتور قيس جواد عزاوي، وأسس العديد من المراكز العلمية والمختبرات، وحاجَّ فرويد، وحاور لينين، وتحدى ستالين، ووقف بشجاعة في وجه الفاشية الألمانية، كان رايش رجلاً صوته مسموع في مختلف العلوم.

نحن إذن أمام رجل موسوعي متعدد الاهتمامات، همه الوحيد منح السعادة لمن لم يحظ بها، وبناء مجتمع يخلو من العقد أو الاضطهادات، مجتمع غير قمعي ولا فوضوي، يجد فيه الجميع قدراً معقولاً ومتساوياً من العدالة، مجتمع تختفي فيه مخلفات القهر من أحقاد وأمراض، فالمرض النفسي ليس استعداداً فردياً للاختلال في مواجهة البيئة المحيطة فحسب، بل إنه، وقبل كل شيء، يحدث بسبب هذه البيئة ونتيجتها.

لذلك يجب ألا يقع العلاج على الفرد، بل على المجتمع كله، ولتعميم هذه الأفكار لم يكتف بالتنظير، بل ذهب إلى الممارسة الجماهيرية في ضواحي فيينا وبرلين، وفي أجواء مشحونة سياسياً واجتماعياً، وفي عالم صراعات وحروب محلية ودولية وتمزقات لا حصر لها.

هجوم وتشويه

ومع ذلك لم يتعرض رجل علم وسياسة لحملة هجوم وتشويه كالتي تعرض لها رايش، فقد وقع على الرجل ظلم كبير، وشوهت أعماله، واتهم بالجنون، واعتبر من المغضوب عليهم، الذين حاربهم ستالين، ورفضهم فرويد، ونالوا قسطهم من ملاحقة النازية، وحقد الرأسمالية، وكانت النتيجة أنه طرد من جمعية التحليل النفسي ومن الحزب الشيوعي الألماني، فالتهمة الأساسية التي وجهت له كونه ماركسياً أنه أراد تسييس التحليل النفسي، وفي المقابل كانت تهمة الحزب الشيوعي لا تخلو من الغرابة، فصاحب كتاب «الوعي الطبقي» متهم بأنه متأثر بالفكر البرجوازي، بسبب انتمائه لحركة التحليل النفسي.

كتب رايش يصف فرويد: «يختلف فرويد عن الآخرين كثيراً، فمنذ البداية أحسست بأنه بسيط وصريح في مواقفه، في حين كان كل واحد من الآخرين يلعب دوراً ما، دور الأستاذية أو العالم، أما فرويد فكان عادياً جداً، كانت له عينان عميقتان ذكيتان، ولم يحاول أن يسبر أغوار عيني، ممثلاً دور العارف بالخبايا، كانت عيناه نزيهتين في النظر إلى العالم».

وبحضور رايش مؤتمر التحليل النفسي، حصل على تقدير فرويد وعضوية الجمعية، وهو شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وكان حينها طالباً في كلية الطب، وكان أصغر أعضاء الجمعية سناً، لقد تعامل مع فرويد كأب، حيث فقد رايش والديه، وفجأة وجد ما يعوضه عن كل شيء، حين وجد فرويد، واعتبر هذه العلاقة بمثابة انعطاف كبير في حياته، منحته الثقة بالنفس من جهة، كما أتاحت له بروزاً علمياً من جهة ثانية.

 وكانت زيارته للاتحاد السوفييتي في سبتمبر عام 1929 قفزة نوعية في المجهول، حيث ابتعد عن فرويد، واختلف معه حول مفاهيم أساسية في التحليل النفسي، فبالنسبة للمحللين النفسيين المحافظين صدق قول فرويد بشأن ولاء رايش للبلشفية لا للتحليل النفسي.

ولد رايش في الرابع والعشرين من مارس سنة 1897 في النمسا، وهاجرت عائلته بعد ولادته إلى أوكرانيا، وكان لطفولته أثر كبير في نفسيته، ولهذا تحدث عن وحدته، أثناء الطفولة، فلم يكن له زملاء يلعب معهم، نظراً لأن أباه منعه من اللعب مع أبناء الفلاحين، وحين بلغ الخامسة عشرة تلقى أعنف صدمة في حياته، وهي انتحار أمه.

تفرغ

قرر رايش أن يتفرغ للطب النفسي، لأن قبوله بشكل استثنائي في جمعية التحليل النفسي، على الرغم من كونه لا يزال طالباً، كان له بالغ الأثر فيه، كان وجوده بين كهول الجمعية مدعاة للسخرية، لكنه فرض نفسه عليهم في فترة زمنية وجيزة، بأفكار مغايرة، لما اعتادوا عليه، وحين أصبح طبيبا قضى ست سنوات متواصلة، وهو يناضل نظرياً لطرح رؤية تحليلية جديدة، قام بتقديمها لفرويد في كتاب كان حجر الزاوية في خلافهما معاً.

عرف رايش كمعالج نفسي لامع، وتعددت زياراته للاتحاد السوفييتي، وفي عام 1935 يصدر في ألمانيا النازية قرار رسمي من الجستابو يقضي بتحريم ومصادرة كتاباته، وفي هذه الفترة يترك التحليل النفسي الكلاسيكي، ليستحدث طريقة العلاج النمائي، وهو مزيج من اليوجا والتمرينات، وكانت سنواته الأخيرة تمثل فترة انتكاس صحي ونفسي كبير، كان يعاني اضطراباً نفسياً (بارانويا).

محاكمة

 سافر رايش إلى الولايات المتحدة، بعد أن طردته أغلب دول أوروبا التي حاول الاستقرار بها، قدمته هيئة الرقابة على الدواء والغذاء للمحاكمة، بعد الشك في أبحاثه العلمية حول السرطان، وتعرض للمحاكمة، وتمت مصادرة كتبه، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين في 12 مارس 1957 وفيما بعد قدم طلباً للرئيس الأمريكي، يطلب فيه العفو، وقبل أن يطلق سراحه في الخامس من نوفمبر، توقف قلبه في الثالث من الشهر نفسه، ومات تاركاً وراءه حياة حافلة بالتشرد والاكتشافات والألغاز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"