عادي
أثر القلب

«التجليات»..رحلة روحانية للتقرب إلى الله

00:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود
حياة الإنسان رحلة من الميلاد وحتى الوفاة، يتعرض خلالها لكثير من المواقف والتجارب، ويلاقي فيها المصاعب والعنت، والصوفي يحاول أن يحاكي تلك الرحلة فيقضي حياته في سفر مستمر، يتزود لرحلة حياته بالإيمان والتقوى والمحبة، فيضرب في الأرض ليتأمل عجائب قدرة الله عز وجل، وذلك ما فعله الكثير من الصوفيين الذين كانت حياتهم هي عبارة عن سفر مستمر، وتنقل من مكان إلى آخر، من أجل تلقي المعارف والحقائق، ولكن تسبق ذلك رحلة شديدة الأهمية، وهي تعمق الإنسان في ذاته ليكتشفها ويهيئها عبر الزهد والنهي عن الغرور والمطامع، ليبدأ بعدها السير في الطريق الذي ينشد التقرب من رب العالمين.

1

على طريقة كبار المتصوفة من أمثال ابن عربي في تجلياته، وجلال الدين الرومي في أسفاره الشهيرة، والنفري في مواقفه المعروفة، ينسج جمال الغيطاني، تفاصيل رحلة عامرة بالفيوضات ومسكونة بالروحانيات في روايته «التجليات.. الأسفار الثلاثة»، وهو المؤلف الذي يعتبر منعطفاً في تاريخ الرواية العربية، بما فيه من أنماط سرد جديدة ومختلفة، وبناء أحداث بوسائل مبتكرة وبديعة، فقد اعتبرت بمثابة علامة كبيرة في تاريخ الإبداع الأدبي الأصيل الذي يحاول أن يصل الحديث بالقديم على مستويات الفكر والفن والإبداع، ولعل ما جعل العمل مختلفاً وغير تقليدي على مستوى البناء الخطي، أنه لا يعتمد الطريقة المعروفة في السرد وربط الأحداث، كما لا يوجد في الرواية أبطال من لحم ودم، بل لغة وكلمات وتأملات روحانية ومعان سامية، فالعمل ينفتح على أسرار الذات والنفس البشرية، ويتناول الوجود وغموضه، وما هو ثابت فيه ومتغير، وثنائية الروح والعقل، والحقيقة والمجاز، حيث إن الرواية تستقي من التصوف لغته البديعة وطرائقه وأساليبه، حيث يرى الإنسان وينظر ببصيرته، لا ببصره، وينفذ إلى عمق الأشياء وجوهرها، لا شكلها وقشرتها.

حكايات

العمل يتناول مواقف وحكايات من صفحات حياة الغيطاني نفسه، تلك الحافلة بالتأملات العميقة والتجارب الروحية، هي رحلة زاخرة بالاكتشافات والحقائق والمعارف، ويتنقل القارئ في المؤلف مع الكاتب في ثلاثة أسفار هي: السفر الأول/ الميلاد والغربة، ويتحدث فيه الغيطاني بصورة سلسة وجميلة عن أربع حكايات يجعلها متصلة بصورة منطقية، رغم انفصالها في الزمان والمكان، وخلال تلك القصص نتعرف إلى محطات من حياة المؤلف، يحكي عن طفولته ومراحل صباه، ويتحدث عن والده الكادح الفقير، فيرسم صوراً ومشاهد باذخة مترعة بالحنين وتفيض بالجمال، كما يتناول الكاتب في هذا السفر، قصة مأساة الحسين بن علي، واستشهاده، ويتعلم الغيطاني من خلال حكاية الحسين أنك إذا أخلصت للتجليات رأيت، وإذا رأيت سمعت، وإذا سمعت شعرت، وإذا شعرت استقصيت، وإذا استقصيت فهمت، ويتوقف المؤلف كثيراً في هذا المنعطف من السرد متأملاً حياة الحسين الحافلة والملهمة، وورعه وتقواه وصفاته الجليلة وأخلاقه النبيلة، ويقول المؤلف في هذا الفصل من الرواية ملخصاً العبر والقيم والمعاني: «أصعب أنواع الرحيل عندما يرحل الإنسان داخل ذاته، فتمر به الدنيا ولا ينالها»، وفي هذا الفصل يتناول الغيطاني كذلك الحياة السياسية العربية عبر حديثه عن جمال عبدالناصر، وينفتح السرد على كثير من المواقف والبطولات والهزائم والنكسات، والتي يشرع في تحليلها بصورة عميقة.

الوحدة والاغتراب

وفي السفر الثاني «الاغتراب والحزن»، يتحدث الكاتب عن الحياة بصورة عامة، الحياة بين ما هو قائم فعلاً، وبين ما كان يمكن أن يكونه لو كانت له حياة مختلفة في مكان وزمان آخر، ويتحدث عن وحدته واغترابه بحثاً عن سعادة ضائعة في سياق سردي بديع، ويجري حواراً متخيلاً مع الصوفي المعروف ابن عربي في مقام الاغتراب والوجد، ويغرق في تأملات عميقة حول الوجود والزمان وحياة الوحدة والعزلة وموت الضمير، ويقول ملخصاً تأملاته والأسباب التي دعته لأن يبوح بمعاناته تلك: «كان ممكناً ألا أبوح بشقائي فالكتمان من طبعي، لولا أني أمرت بالإفشاء والعلن، لذا أشهدكم يا أحبائي، جنبكم خالقي ما عانيت»، ويحمل ذلك الفصل لغة صوفية شفيفة تعكس مشاعر الكاتب في دفقات وجدانية تخاطب القلوب.

وداع وحزن

أما السفر الثالث، فقد حمل عنوان «الوداد والوداع»، فيكثر فيه الكاتب من ذكر الموت، ويستعيد شريطاً من أيام طفولته وشبابه، متناولاً جانباً من حياة والديه بلغة شاعرية شفافة.

الرواية تحتشد بالصور والمشاهد، وهي عبارة عن رحلة روحانية معرفية، هي أقرب إلى الحلم كشأن رحلات كبار المتصوفة الذين يكثر حضورهم داخل النص السردي، خاصة ابن عربي والحلاج والنفّري والسهروردي، وغيرهم من أصحاب التجارب الروحية، حيث يجري معهم الكاتب حوارات ويأخذ منهم المعارف والحقائق ويسير معهم في طريق النفحات الصوفية ومحبة الله تعالى.

العمل حفل بالرموز والشفرات والأسرار والغرائبيات، فهو يعبر عن الامتلاء الصوفي والمحبة الخالصة، ولعلنا نلمح تأثراً واضحاً للكاتب بمقولات الكثير من المتصوفة، وبصورة خاصة بقول جلال الدين الرومي: «إذا أردت أن تنظر إلى مركز العالم، فانظر إلى ذاتك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"