عادي

«المترجــم المؤسســة» يُحلِّــق بجناحــي لغتيــن

22:27 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: يوسف أبولوز

ظاهرة قائمة ومنظورة في الثقافة العربية، وأقصد بها الترجمة إلى العربية التي يقوم بها أفراد وليست مؤسسات، وبذلك، فهي ظاهرة أفراد مترجمين لهم مشاريع أخلصوا لها، وعاشوا من أجلها، وأصبح المترجم من هؤلاء ليس مجرد ناقل من لغة إلى لغة كأنه ببغاء أو كأنه وسيط لغوي لا أكثر ولا أقل؛ بل أصبح المترجم هو نفسه مؤسسة، وأصبح يُنظر إليه بوصفه مثقفاً ورافداً حيوياً في بنية الثقافة وتنميتها وانفتاحها على لغات العالم وآدابه وفنونه.

أصبحت الترجمة على أيدي هؤلاء عملية إبداعية تماماً، أصبحت فناً مستقلاً يتكامل مع فن الشعر وفن الرواية، لا بل هناك مَن ينظر إلى الترجمة بوصفها جنساً أدبياً على الرغم من أن المترجم ليس هو مُنتج هذا الأدب، غير أن الترجمة الصافية، اللغوية، الحِرفية؛ بل الضميرية والثقافية والإبداعية هي بالضرورة نوع من الأدب يتوازى في إنتاجه المؤلف والمترجم على خط واحد، حتى يتماهى المترجم مع المؤلف، فيصبح مؤلفاً آخر للنص الأدبي الروائي والشعري بشكل خاص، وإذا كان لي أن أجتهد هنا في هذه النقطة بالذات، فأسمح لنفسي بالقول إنه إذا كان المؤلف يكتب بلغة واحدة، فإن المترجم «يكتب» بلغتين حين ينقل نصاً روائياً أو شعرياً من لغته الأم إلى لغته الأم الأخرى الشقيقة، فاللغة الشقيقة هي اللغة الثانية التي يشتغل عليها المترجم؛ لا بل كأن لغة المؤلف هي حليب اللغة الأم، ولغة المترجم هي حليب الأم الثانية: الأم المرضعة.

 أردت أن أكتب عن ظاهرة ترجمانية عزيزة على قلب كل شاعر عربي، هي ظاهرة الشاعر المصري رفعت سلّام 1951 2020 أحد أبرز شعراء السبعينات ليس في مصر فقط؛ بل في الوطن العربي، وإلى جانب مشروعه الشعري أو الأصح تجربته الشعرية، كان سلام مترجماً «فرداً ومؤسسة» في ذاته، ولكن قبل الإضاءة على هذا المترجم العاشق الأبدي للشعر العالمي، أودّ الإشارة سريعاً إلى بعض «وليس كل» المترجمين العرب الكبار الذين حوّلوا الترجمة من نقل وببغاء إلى فن وطيران.

تخصص المترجم المصري أبوبكر يوسف 1940  2019 في نقل  إلى العربية مباشرة من الروسية  أعلام الشعر والرواية من الكبار ممّن عرفناهم جيداً عبر إصدارات دار التقدم ودار رادوغا في موسكو.

المترجم السوري سامي الدروبي 1920  1976 هو الآخر ظاهرة ترجمانية فردية، وفي ذاته مؤسسة، وتُجمع كثير من الكتابات على أنه تخصص في ترجمة دوستوفسكي.

من الظواهر الترجمانية أيضاً المترجم الفلسطيني صالح علماني 1949 2019، وتخصص في نقل الأدب الإسباني من حوالي 20 دولة من القوس الأمريكي اللّاتيني.

ما دمنا في قوس المصطلحات النقدية فلنرحّب أيضاً بظاهرة ترجمانية أخرى على يد الناقد العراقي د. عبد الواحد لؤلؤة، ومَن مِنَ الكتّاب العرب لم يخصص رفاً لموسوعة المصطلح النقدي التي من خلالها أرشدنا د. لؤلؤة، إلى حزمة من المصطلحات نقلها من الإنجليزية إلى العربية مباشرة بلسان فصيح.

د. محمد عناني 1939، ظاهرة ترجمانية أخرى مصرية عربية ولدت من خلفية مسرحية ونقدية وأكاديمية، ما دفع بأحد الكتّاب إلى أن يُطلق على الرجل «عميد المترجمين».

ظاهرة رفعت سلّام أو «جزء من الظاهرة» يتمثل أمامي الآن في كتابين ضخمين، الأول: أوراق العشب للشاعر الأمريكي والت ويتمان (الأعمال الكاملة) في 990 صفحة من القطع الكبير، ثم الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسي شارل بودلير في 782 صفحة من القطع الكبير؛ أي أنك تتحدث عن 1772 صفحة من القطع الكبير، ونحن نتحدث هنا عن ظاهرة ترجمانية، وليس قراءة في هذه الأسفار الشعرية الضخمة التي إذا قرئت معاً وفي وقت واحد، فهي ضرب من ضروب رضاعة الشعر من الوالدتين: اللغة الأم، ولغة الترجمة، غير أن «مؤسسة» أو «ظاهرة» رفعت سلّام لم تقم على والت ويتمان، وبودلير فقط، فقد ترجم إلى العربية: بوشكين، مايكوفسكي، ليرمنتوف، ريتسوس، جريجوري جوزدانيس، دراجو شتامبوك، قسطنطين كفافيس، آرثر رامبو، إكسينيا ميهايلوفا.

ولكن كيف يُترجم رفعت سلام؟، يرى سلّام أن ترجمة الشعر تظل قائمة على احتمالات، وأننا إذا ترجمنا شعراً إلى لغتنا العربية أو جرت ترجمة الشعر من أية لغة إلى أية لغة أخرى، فإن النص الشعري لا يُسْتَنفد.. يقول سلّام: «كل ترجمة لا يمكنها بحكم طبيعة العمل الإبداعي ذاته، وطبيعة التلقي أن تستنفد النص، وتصادر احتمالاته الكامنة الأخرى، الافتراضية، فكل ترجمة تظل أحد الاحتمالات المتعلقة بالنص، حتى لو كانت الاحتمال الراجح».

فن موارب

يريد رفعت سلّام القول، بعبارة أخرى، إن الشعر فن موارب، وخاصة الشعر العربي، فهو شعر الاستعارة والمجاز والكناية والرمز، وغيرها من عناصر البلاغة واللغة في تراثنا العربي، وبذلك تكثر الاحتمالات في الترجمة.

تلك رؤية سلام للترجمة، ولكن لكل مترجم في الشعر تحديداً، اجتهاده، وطريقته، وأدواته، وطبيعة تعامله الخاصة مع المادة المترجمة: هل هي تذوّق كما يفعل صالح علماني مع أدب أمريكا اللاتينية، أم هل هي صداقة كما هي حال سامي الدروبي مع دوستوفسكي، أم هي ذاكرة وتاريخ كما هو حال أبوبكر يوسف مع الأدب الروسي، أم هي فكر وفلسفة كما المصطلح النقدي عند د. لؤلؤة، أم هي أدب واحتراف وثقافة مثل ما عند الدكتور محمد عناني؟.

نعم. هي ظواهر ترجمانية عربية؛ بل «مؤسسات» ترجمانية قامت على أفراد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"