مرايا الإدارة

22:46 مساء
قراءة 3 دقائق

د. راسل قاسم
مضى علينا نحن البشر آلاف السنين ننظر إلى أنفسنا في المرآة دون كلل أو ملل، نصادق المرايا لتسمح لنا برؤية أنفسنا كما نحن، وإظهار شكلنا الحقيقي دون تلكأ أو مواربة.
مررنا ونحن نسعى لرؤية أنفسنا بعدة مراحل وأشواط، ففي الأزمان الغابرة كنا نرى صورنا في انعكاس بركة ماء، ومنذ أكثر من ثمانية آلاف عام بدأنا نصنع المرايا من الأحجار المصقولة، ثم من النحاس، فالبرونز، فالزجاج. إلى أن قام الكيميائي الألماني جوستوس ليبيج في القرن الثامن عشر بصناعة المرايا التي نعرفها اليوم من خلال طلاء سطح الزجاج بالفضة المعدنية.
من المسلم به أن رغبتنا في رؤية كيف نبدو هي سمة متأصلة فينا نحن البشر منذ زمن بعيد، فلا الأيام استطاعت إضعاف هذا التوق، ولا السنون نجحت في إخباء جذوة هذه الرغبة. لا بل على العكس من ذلك، فقد انتقلت رغبتنا في رؤية أنفسنا إلى شتى ممارسات الإدارة والأعمال، فمن الأسئلة التي لا تنفك تدور في رأس أي قائد فذ أو إداري رصين، كيف أستطيع أن أرى ذاتي المهنية كما هي دون مجاملة؟ لأبني على ما لدي من إيجابيات وأعمل على تطوير ما هو خلاف ذلك.
جادت علينا ممارسات الإدارة بعدد من الأدوات والمنهجيات التي تساعدنا على رؤية حقيقتنا المهنية، وإلقاء نظرة أكثر قرباً وصدقاً على أدائنا.
التقييم الذاتي: ويقوم به الشخص بنفسه لتقييم عمله والجدارات التي يتمتع بها، ويساعد هذا النوع من التقييم على التفكير المستقل كما أنه يتفادى الآثار السلبية للتقييم التقليدي؛ حيث يمكن للمصالح والتحيزات الخارجية أن تؤثر في نتيجة التقييم، لكن في ذات الوقت يتطلب الاستخدام الناجح لهذه الطريقة قدرة كبيرة على ضبط النفس والتحلي بالحياد مع الذات. وقد أظهرت بعض الدراسات أن التقييم الذاتي خلال فترات متقاربة يمكن أن يكون له أثر سلبي في تقدير الشخص لذاته وإنجازاته، بينما يكون أكثر فاعلية عندما يتناول الأهداف المستقبلية على فترات متباعدة.
يتم اللجوء إلى التقييم الذاتي في المهن التي تتمتع باستقلالية كبيرة وتتطلب معايير عالية من النزاهة والحياد مثل المهن المرتبطة بالقضاء والتشريع.
مراجعة الأقران: وهي ممارسة للحصول على تغذية راجعة عن أدائنا من مجموعة من الأشخاص الذين نكون على تواصل مباشر معهم، وهؤلاء الأشخاص هم عادة المسؤولون المباشرون، المرؤوسين، والزملاء، وفي بعض الأحيان يتم إضافة المتعاملين أو الموردين على حسب طبيعة العمل والنشاط. تعرف هذه الطريقة أيضاً بتقييم 360 درجة وظهرت لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية؛ حيث استخدمت لتقييم أداء العسكريين، اكتسب هذا التقييم شعبية كبيرة خلال السنوات الماضية واعتمده عدد كبير من المؤسسات لقدرته على التعامل مع التعقيدات الكبيرة التي طرأت على طرق أداء العمل، تستخدم أكثر من 85٪ من الشركات الخمسمئة الأعلى قيمة في العالم عملية التغذية الراجعة 360 كأداة رئيسية لتطوير القيادة الشاملة.
مقاييس الأداء: إن وضع مقاييس للأداء، ووسمها بمستهدفات، ومتابعة تحقيقيها بشكل منتظم هو من مبادئ الإدارة وأساسيات العمل، وهو النمط الأكثر شيوعاً بين المهنيين وفي المؤسسات. ولكنني قصدت تأخير النظر في هذه المرآة لقناعتي بوجوب كبح هذا السعي المحموم نحو تحقيق هذا الرقم أو ذاك، والتضحية بموارد ثمينة وقوداً للوصول إلى – بعض – المستهدفات التي لا تعود بالفائدة المرجوة ولا تحقق الأثر المأمول.
منذ أن نظرنا في تلك البركة لأول مرة، ونحن مفتونون برؤية أنفسنا ومعرفة حقيقتنا، وما نزال سائرين في هذه الرحلة، رحلة البحث عن المرايا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"