عادي

«الوصل» بين الثقافات

00:59 صباحا
قراءة 5 دقائق
بعيدا من هنا السويسرية مونيكا شتاينر

الشارقة - يوسف أبولوز
هنا، في الأفق الجغرافي الواقع بين آسيا وإفريقيا، غير البعيد عن طريق الحرير، والعامر بتراث الجزيرة العربية والخليج العربي؛ حيث التقت حضارات الشرق مع ثقافات وفنون وآثاريات المتوسط، وقريباً من حضارة وادي الرافدين وأساطيرها وشعرياتها العتيقة.

هنا عند ملتقى ثقافات البحار، واليابسة المتجاورة المتعامدة على خط الحياة بما فيها من صناعات وتجارات متبادلة؛ حيث الإمارات الدولة التي وقّعت اسمها بماء الذهب في قائمة بلدان العالم، نشهد الحدث العالمي الأكبر في العقدية الثانية من القرن الحادي والعشرين، حيث العالم كله، فقد شاركت في «إكسبو 2020» 192 دولة من جهات العالم الأربع، في حين بعض الإحصاءات الدولية، أن عدد بلدان العالم 195 بحسب إحصاءات 2021، وهو رقم له دلالة رمزية كبيرة تتعلّق باستجابة العالم ودوله وحكوماته للإمارات في ضوء ملفها الذي تقدمت به في المنافسة على تنظيم إكسبو، وكان ذلك في عام 2013 أو قبل نحو عقد من الزمان، وكان التنافس على أوجه بين: تايلاند، وروسيا، وتركيا، غير أن الثقل الثقافي تحديداً لملف الإمارات جعل منها الرابح العالمي في المنافسة، وهكذا، بدأت خريطة طريق إكسبو 2020 منذ ما قبل نحو عقد من الزمان بتدرج، ورؤية مستقبلية، إلى أن وصلنا إلى ليلة الوصل بين الحضارات والثقافات والاقتصاديات التي تعد البشرية بمستقبل أجمل.

«ليلة الوصل».. ليس مجرد استخدام بلاغي شعري فقط؛ بل هو استخدام واقعي تماماً، فإذا كان لكل امرئ من اسمه نصيب، فإن لكل مدينة من اسمها نصيب أيضاً، و«الوصل» كما نعرف هو الاسم التاريخي التراثي الأولي لدبي، وما زال اسمها هذا يحتفظ بدلالته التعريفية بالمكان، والقدامى في السن والعمر والثقافة في الإمارات يميّزون دبي بِ «الوصل»، أما نصيب العالم من هذا الاسم المكاني الأصيل فهو الوصل والاتصال بين ثقافات العالم التي التقت فعلياً في الأول من أكتوبر/تشرين الأول في دبي لتبدأ الرحلة العالمية في الثقافات والحضارات من هنا، من الإمارات، بكل ترتيب إداري ومهني معاصر وجديد لهذا الحدث العالمي.

كانت دبي قبل أن تصل بين ثقافات العالم، وتتواصل معها، صلة وصل بين اقتصاديات الخليج العربي، وبلدان آسيوية عريقة في الثقافة والتجارة والعلوم مثل الهند وإيران، وتكتسب هذه التواصلات الاقتصادية تواصلات ثقافية بالضرورة، وإلى جانب هذه التاريخية في العلاقات الاقتصادية والثقافية، ستكون الإمارات ومركزها التجاري والاقتصادي دبي وجهة أخرى أيضاً لاقتصاديات وثقافات مجاورة مثل العراق وبالضرورة التواصل الأخوي الحميم مع دول الخليج العربي، والجزيرة العربية، واليمن.

لغات الشعوب

من الضروري ونحن نتحدث عن مكان وزمان إكسبو 2020 دبي، أن نتحدث في الوقت نفسه عن الجوار الثقافي للإمارات، الذي لا نفصله عن الجوار الاقتصادي، وكل ذلك عتبة أولية للنظر إلى إكسبو 2020 من زاوية ثقافية، وهو، أي إكسبو 2020 بالفعل ملتقى اقتصادي ثقافي بامتياز؛ بل، لعل الاقتصاد والثقافة ومعها الفنون بالطبع لم يلتقيا عبر التاريخ مثل لقاؤهما اليوم في إكسبو دبي في الإمارات العربية المتحدة.

أولاً، من حيث اللغة أنت تتحدث هنا عن 192 دولة، أي أن اللغات العالمية الحية سواء المتداولة في الأمم المتحدة أو في الثقافات الإقليمية والممدودة في محليتها الجغرافية.. كلها موجودة ومنطوقة ومتداولة ومتواصلة ومتصلة بعضها ببعض هنا في إكسبو 2020، ويعزّز من أهمية هذا الوصل بين اللغات أن الإمارات نفسها هي بلد الإقامة والعيش والحلم لأكثر من مئتي جنسية، كلها تتمتع بالاحترام المتبادل بين قيم التعايش التي تقوم أصلاً على اللغة قبل أن تقوم على الأديان والأيديولوجيات والأفكار الضيقة، فلكي أعرفك أولاً فإنني أتخاطب معك وأحدثك إما بلغتي أو بلغتك أو بلغة وسيطة مشتركة ولا أسأل أولاً عن دينك ومذهبك وطائفتك وهي اعتبارات مرفوضة في القانون الإماراتي الذي يعتبر التمييز والعنصرية والكراهية والاستعلاء باللون أو بالدين أو بالثقافة جرائم وضع عقاباً عليها مجموعة من الأحكام الصارمة.

إن اللغة جانب حيوي مهم في إكسبو 2020 من الناحية الثقافية، وبخاصة أن زمن إكسبو هو نصف عام تنتهي في 2022 سوف نشهد خلالها فعاليات بالتأكيد ستنظمها أجنحة الدول المشاركة فيه، أو على الأقل بعض الأجنحة، غير أن المعروض الاقتصادي أو التجاري أو الصناعي هو في حد ذاته معروض ثقافي... التحف، والأزياء، والطعام، والمطرّزات، وحتى الصناعات المتقدمة لدرجة أن نسمّيها صناعات ثقيلة.. كل ذلك أو كل هذه المعروضات إنما يحمل رموزاً وإشارات وعلامات ثقافية.

إن التجوال في 192 جناحاً هو قراءة يومية متواصلة للحياة الصامتة التي تعكسها الأشياء الجلدية والمعدنية والقماشية والزجاجية والحريرية والنحاسية والذهبية والفضية والخشبية، وتلك الأشياء ذات الرمزيات الروحية والأنثروبولوجية والمعتقدية.. المعروضة على مدار 180 يوماً بلا انقطاع.

ثقافياً، أيضاً، علينا أن ننتبه إلى الجانب الإيقاعي في إكسبو 2020 كما انتبهنا إلى الجانب اللغوي فيه، والمقصود ب «الجانب الإيقاعي» هو الموسيقى على نحو مباشر هذه اللغة الكونية غير الأبجدية ولكن يمكن أن يتفاهم بها العالم كله بلا حاجة إلى أي حروف، سوى هذا الذي يُسمّى «السلم الموسيقي» الذي يصعده العالم حتى نحو المريخ.

تداعيات الموسيقى بوصفها لغة كونية في إكسبو 2020 يحمل على القول إن التراث الغنائي العالمي، وبخاصة الشعبي منه هو انعكاس مادي ومعنوي ونفسي وروحي لثقافات الشعوب، وهو الانعكاس المدني الأجمل الذي يسمى دائماً بِ «القوة الناعمة»، لا بل إن هذه القوة تبدو وكأنها قوة واحدة لكل شعوب الأرض.

لقد رأينا كيف توحّد العالم على ذمة موسيقى ليلة حفل الافتتاح في دبي في إطار تشكيلي متعدد الجماليات الصوتية والضوئية يقوم على عمود فقري واحد هو الموسيقى.

زمن ثقافي عالمي

إن حفل الافتتاح في حد ذاته هو «زمن ثقافي عالمي» بامتياز يشارك في تجسيده وتكوينه موسيقيون ومغنّون عرب وغير عرب وفي أكثر من لغة وأكثر من إيقاع صوتي وجسدي، فحتى الجسد يعكس أيضاً جانباً من ثقافات الشعوب.

حفل الافتتاح مسرح استعراض جماعي، وملتقى موسيقات كما هو ملتقى أصوات: محمد عبده، حسين الجسمي، أحلام، اندريا بوتشيلي (إيطاليا)، إيلي جولدينج (بريطانيا)، لانج لانج (الصين)، وذلك على انضباط المخرج فرانكو دراغون الذي اعتبرته الصحافة «مايسترو» حفل الافتتاح.

تضمن الحفل أيضاً بعداً شعرياً يتمثل في الصياغات اللونية والتشكيلية التي أظهرها العمل التقني القائم على الضوء:.. مرة أنت أمام حديقة بأزهار مبهرة، ومرة أنت في وسط هالات بطيئة وأخرى متحركة بالأبيض وغيره من ألوان معروفة في فن الاستعراض، ومرّة أنت أمام حركية جماعية قوامها حيوية طفولية تتمثل في الأداء المنظم المركّز لمجاميع من الأطفال والشباب.

الإشارة إلى حفل الافتتاح هي في الواقع إشارة إلى العتبة الثقافية الفنية لهذه الدورة العالمية فعلاً من إكسبو 2020، والثقافة هنا تجمع، وتوحّد، وتمكّن، وَتَعِدُ،.. تعد بالمستقبل.

أرض الإنسان ووطن البشر

جاء شعار إكسبو 2020 في هذه الدورة المستقبلية على هذا النحو المكثّف والدّال.. «تواصل العقول وصنع المستقبل»، وما من عقول علمية إبداعية حلمية مدنية إلا وتغذّت أصلاً بكل ما هو ثقافي إنساني بالدرجة الأولى، أما المستقبل فهو الباب الثالث عادة لأرض الإنسان ووطن البشر، أولاً: ماضيك، ثانياً: حاضرك، ثالثاً: مستقبلك، وأنت ستعبر هذه البوّابات الثلاث أو لن تعبر هذه البوابات الثلاث إلا بالثقافة.

إن عبارة تواصل العقول تحمل في صيغتها اللغوية والفكرية مضامين أخرى غير مفهوم «التواصل» في حدّ ذاته الذي يعني: الحوار، التقارب، التلاقي، فمفهوم «التواصل» يعني هنا قيماً تلحّ اليوم على العالم ومفكّريه وفلاسفته، وقد رفعت الإمارات من شأن هذه القيم:.. التسامح، التعايش، التفاهم، التبادل المعرفي والتقني والفكري، وغيرها من قيم إنسانية كونية رفيعة تُعلي من كرامة الإنسان وتحترم بشريته وآدميته. الإمارات تجمع دول وقارّات وثقافات وأفكار وتفاؤلات الشرق والغرب والشمال والجنوب على مبادئ وقيم وأخلاقيات جعلت منها دولة الحداثة والإيجابية والتفوّق في 50 عاماً، متطلعة إلى مئوية قادمة هي ترجمة للمستقبل والحياة والجمال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"