عادي
أول رئيس فرنسي يحضر مراسم تخلد ضحايا قمع استعماري حدث قبل 60 عاماً

ماكرون «يتودّد» للجزائر بإحياء ذكرى مذبحة تاريخية

00:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
1
ماكرون

كتب: المحرر السياسي

 

تراوحت تطورات العلاقات بين باريس والجزائر بين التهدئة والتصعيد في ظل توتر وتجاذبات حول ملفات شائكة وحقائق محل خلاف وتجاذب، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يبدو أنه يسعى بجدية لتخفيف التوتر، وأقدم على خطوة لم يسبقه إليها أسلافه، عندما اتخذ قراراً بحضور مراسم إحياء ذكرى مذبحة الجزائريين في تظاهرة 17 أكتوبر 1961 في باريس. فللمرة الأولى منذ 60 عاماً أقيمت مراسم رسمية إحياء لهذه الذكرى، وضع خلالها ماكرون إكليلاً من الزهور على ضفاف نهر السين بالقرب من جسر بيزون الذي سلكه قبل ستين عاماً متظاهرون جزائريون وصلوا من حي نانتير الفقير المجاور، تلبية لدعوة فرع جبهة التحرير الوطني بباريس، في سياق حرب التحرير الجزائرية.
وإثر إقامة مراسم الإحياء، تحدث ماكرون إلى أقرباء الضحايا الذين بدوا متأثرين جداً، وندد بـ«جرائم لا تغتفر بالنسبة إلى الجمهورية»، وقال بيان للإ لاليزيه إن رئيس الدولة «أقر بالوقائع: إن الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون (قائد شرطة باريس يومها) لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية».
سابقة وتحرك ميداني
ويحسب للرئيس الفرنسي الحالي أنه يمتلك الجرأة على نبش التاريخ الأسود للحقبة الاستعمارية، لكنه يظل حذراً في التوغل أكثر في هذه الذكراة لما تتضمنه من عقد شائكة وتقاطعات ربما لا يستطيع كسرها، وإنما هي محاولة جادة لتقليب صفحات التاريخ ومسعى لإراحة ضمير الدولة الفرنسية إزاء ما ارتكبته من تجاوزات وفظاعات. وقد بدأت محاولات الإليزيه الجادة مع الرئيس السابق فرانسوا هولاند، لكن لم تصل به الأمور إلى التحرك الميداني، عكس ما يفعل ماكرون الذي يريد القيام بخطوات جديدة من أجل الاعتراف بجرائم الاستعمار الفرنسي. وأيضاً تهدئة العلاقات الفرنسية الجزائرية المتوترة بعد تصريحاته الأخيرة التي دفعت الجزائر إلى إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية إلى منطقة الساحل، حيث تنشر باريس نحو خمسة آلاف جندي وتقاتل جماعات متشددة في مالي والنيجر. وفي الثاني من أكتوبر الجاري، استدعت الجزائر سفيرها لدى فرنسا للتشاور بعد ما وصفته بتعليقات غير مسؤولة منسوبة للرئيس الفرنسي. وقالت الرئاسة الجزائرية، إن تلك التصريحات تمس الشهداء الجزائريين الذين ناضلوا من أجل الاستقلال عن فرنسا، و«حملت مساساً غير مقبول بذاكرة الشهداء».
وكانت صحيفة «لوموند» نقلت عن ماكرون قوله إن «النظام السياسي العسكري» الجزائري أعاد كتابة تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر على أساس «كراهية فرنسا». كما نُقل عنه تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الحكم الاستعماري الفرنسي. وحينذاك، قالت صحيفة «ليكسبرسيون» المقربة من السلطة الفرنسية إن ماكرون ارتكب «انحرافاً لا يغتفر، لم يرتكبه أي رئيس فرنسي سابقاً».
حصيلة متضاربة
وربما يأتي الإحياء الرسمي لمذبحة 1961 محاولة أخرى في إطار جهود ماكرون وسياسته المستمرة منذ انتخابه نحو المحاولة لطي صفحة أليمة ومظلمة من تاريخ العلاقات بين فرنسا والجزائر. وقال الإليزيه مبرراً إحياء الذكرى الدموية «لأنها كانت قمعاً دموياً». وبينما لا تتحدث الحصيلة الرسمية عن أكثر من ثلاثة قتلى، تكشف وثائق فرنسية أن رئيس وزراء فرنسا آنذاك ميشيل ديبري وقائد شرطة باريس موريس بابون مسؤلان عن إعطاء أوامر للشرطة باسخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، فكانت المذبحة التي يقدر المؤرخون عدد ضحاياها بين 120 و200 وبعض المفقودين ممن ألقيت جثثهم في النهر، في حين تقول السلطات الحزائرية إن حصيلة تلك المذبحة الرهيبة كانت 300 شهيد. وفي كتابه «معركة باريس» أخرح الباحث الفرنسي جان لوك إينودي هؤلاء الضحايا من مقبرة النسيان عام 1991، وبعد 21 سنة من ذلك التاريخ أقر الرئيس هولاند عام 2012 بذلك «القمع الدموي» للجزائريين الذين تظاهروا من أجل الحق في الاستقلال، بحسب ما ذكرت صحيفة «لا ديباش». وأوردت الرئاسة الفرنسية أن «نحو 12 ألف جزائري اعتقلوا ونقلوا إلى مراكز فرز في ملعب كوبرتان وقصر الرياضات وأماكن أخرى. وإضافة إلى عدد كبير من الجرحى، قتل العشرات ورميت جثثهم في نهر السين. لم تتمكن عائلات كثيرة من العثور على جثث أبنائها الذين اختفوا في تلك الليلة الدامية».
وفي سياق البحث عن الحقيقة، نشر موقع ميديا بارت مؤخراً مقالاً سلط الضوء فيه على جوانب من أحداث 17 أكتوبر 1961، أورد فيه قصة الطفلة فاطمة بدار (15 سنة) أصغر ضحايا تلك المذبحة، وهي ابنة جزائري خاطر بحياته خلال الحرب العالمية الثانية من أجل فرنسا، «جاءت للاحتجاج وحقيبة مدرستها على ظهرها بالرغم من معارضة والديها، تعرضت للضرب ثم ألقيت في الماء ليتم انتشال جثتها بعد أسبوعين في قناة«سان مارتان»، ليجبر لاحقاً والدها على التوقيع على محضر للشرطة يقول إنها غرقت أو انتحرت».
السياق الانتخابي
في بيانه السبت، اعترف الإليزيه بأنه «تم إطلاق الذخيرة الحية في هذا الموقع وتم انتشال جثث من نهر السين». وقال الإليزيه إنه «سيتجاوز عتبة الاعتراف بما حصل وسيتعامل مع حقيقة الوقائع». ويرى مراقبون أن هذه الخطوة سيسيل حولها كثير من الحبر، وسيوظفها البعض في السياق الانتخابي الذي يمهد للاستحقاق الرئاسي في إبريل المقبل، ومازالت حظوظ ماكرون وافرة للفوز بولاية ثانية.
وبعيداً عن الأهداف الانتخابية، ترى الأوساط المقربة من الإليزيه أن ماكرون، الذي يقوم بعمل غير مسبوق بشأن ذاكرة حرب الجزائر، أن «ينظر إلى التاريخ وجهاً لوجه»، كما فعل مع رواندا عبر الاعتراف بـ«مسؤوليات» فرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي 1994، لكن الإليزيه أكد في الوقت نفسه أن «هذا لا يعني إعادة كتابة التاريخ أو إعادة اختراعه»، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.

الجزائر: سنلاحق باريس حتى تعترف بجرائم الاستعمار

لا تبدو خطوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كافية لإزالة التوتر مع الجزائر، وشددت وزارة الاتصال الجزائرية على ملاحقة فرنسا، حتى تعترف بجرائمها ضد الشعب الجرائري، خلال فترة احتلالها للبلاد. وقالت الوزارة إن «الحفاظ على الذاكرة والدفاع عنها واجب مقدس سنلاحق به فرنسا اليوم وكل يوم إلى أن تعترف بمسؤوليتها كاملة وتلتزم بتحمل تبعات جرائمها ضد أمتنا».
والأحد الماضي، قال الرئيس عبد المجيد تبون إن عودة السفير الجزائري إلى باريس مشروطة بالاحترام التام لبلاده، مضيفاً: على فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت يوماً ما مستعمرة. وفيما لم تحدد القيادة الجزائرية شرطاً محدداً لعودة الصفاء إلى العلاقات، يبقى طي صفحة الماضي الأليم بحاجة إلى شجاعة وتنازلات كبيرة من الطرفين، وإلا ستبقى الأمور على حالها، وربما تزداد تعقيداً.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"