حرب بلا طلقات

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

العقوبات الاقتصادية، هي الحرب الأبدية الحقيقية التي تخوضها الولايات المتحدة. قد تتوقف لبعض الوقت عن تنفيذ مغامرات عسكرية أو غزوات خارجية، لكن إجراءاتها الاقتصادية العقابية المسلطة على رقاب الشعوب والدول والمنظمات التي لا ترضى عنها، لم ولن تتوقف. أحد أهم الدروس التي تعلمتها أمريكا من تجربتي العراق وأفغانستان، أن قتل العدو ببطء من خلال خنقه بحصار اقتصادي وعقوبات مالية وتجارية، أكثر أمناً وأقل كلفة من الاستعانة بالجيوش.
 قبل وبعد هاتين الحربين تظل العقوبات إحدى الأدوات الأساسية، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لواشنطن من خلال الضغط على أعدائها، لتغيير سياساتهم أو مواقفهم أو انتقاماً منهم. لن يختلف الوضع مع الإدارة الحالية عما كان مع الإدارات السابقة، خاصة أن الرئيس جو بايدن لا يميل بطبعه إلى شن الحروب. والوثيقة التي أصدرتها وزارة الخزانة الأمريكية منتصف الشهر الماضي تؤكد هذا الاتجاه.
 سيلتزم بايدن بالجزء الأكبر من منظومة العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب، لكن ستكون هناك فروق جوهرية أهمها التنسيق مع الحلفاء الذين تجاهلهم ترامب، بل إنه فرض عقوبات على بعضهم مثلما فعل مع ألمانيا، لإصرارها على مشروع خط أنابيب الغاز الروسي «نوردستروم2». كما يصّر بايدن على رد الاعتبار للمنظمات الدولية، وفي هذا الإطار كان قراره برفع العقوبات التي فرضها ترامب على محكمة الجزاء الدولية، وكذلك العودة لمنظمة الصحة العالمية التي كان قد انسحب منها.
 وإذا كانت وزارة الدفاع هي التي تقود الحروب الخارجية، فإن وزارة الخزانة تتولى القيادة في الحروب الاقتصادية، تعاونها وزارتا التجارة والخارجية. وعلى الموقع الرسمي لوزارة الخزانة توجد قائمة طويلة لما يسمى ببرامج العقوبات التي تم تحديثها خلال عامي 2020 و2021 وتشمل 37 برنامجاً تضم الدول والمنظمات المستهدفة بالعقوبات، والتي تفرض أيضاً على أنشطة بعينها مثل الإرهاب، أو تجارة المخدرات، أو الانتشار النووي، والهجمات السيبرانية. وقد يتم فرضها على أفراد دون أن تشمل الدولة التي ينتمون إليها.
 لا يتسع المجال لعرض تفاصيل قائمة المغضوب عليهم أمريكياً، إلا أنها تعكس الإدراك الراسخ لدى صانع القرار في واشنطن بأهمية العقوبات كسلاح اقتصادي فعال، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وحماية الأمن القومي. وبصرف النظر عن نجاح أو فشل سياسة العقوبات وقدرتها على تغيير سياسات الدولة والجماعات المستهدفة، فإن أضرارها المحتملة على الولايات المتحد نفسها، لا يمكن إنكارها أو تجاهلها.
 التحذيرات في هذا الشأن ليست جديدة، وقد أشار إليها في عام 2016 وزير الخزانة آنذاك «جاكوب ليو» في خطاب أثار جدلاً واسعاً حذر فيه من عدم فاعلية العقوبات والمبالغة في فرضها حتى لا تؤدي إلى الإضرار بصورة أمريكا وإظهارها أمام العالم، وكأنها تسيء استخدام قدراتها كدولة قائدة للنظام الدولي.
 ضرر آخر مهم تحدث عنه السفير السابق دانيل فرايد، المحلل السياسي الحالي بمجلس أتلانتك للدراسات وهو أن تطبيق العقوبات على عدد كبير من الدول سيشجعها على الاستغناء عن الدولار كعملة أساسية للتبادلات، وكذلك ستسعى إلى الاستقلال على النظام العالمي الذي تهيمن عليه أمريكا وإيجاد نظام بديل. ولعل الصين بالتعاون مع روسيا تسعيان جدياً في هذا الاتجاه.
 في وثيقة الخزانة الأخيرة اعتراف واضح بالقلق من هذه الاحتمالات، فضلاً عن رصد ثغرات أخرى. لذا تقترح مجموعة توصيات منها تجنب خطأ ترامب باستخدام العقوبات كأداة دعائية، لإثارة اهتمام الجمهور وكسب تعاطفه والادعاء بإحراز انتصار سريع، وهو ما لا يتحقق بالفعل. النصيحة المهمة التي توجهها الوثيقة إلى بايدن هي عدم استعجال النتائج، وعدم التسرع بفرض إجراءات انتقامية إضافية دون دارسة متأنية. توصي أيضاً بالتنسيق الكامل مع الحلفاء، وأن تكون العقوبات جزءاً من استراتيجية شاملة متناسقة.
الخلاصة التي لم تذكرها الوثيقة بصورة صريحة، إلا أنه يمكن قراءتها بسهولة بين سطورها، هي أن حروب أمريكا الاقتصادية ستتواصل، بل ستزداد شراسة ولن تستثني كبيراً أو صغيراً، فالكل في العداوة سواء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"