وصية لم تحترم

00:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

في الثالث من يونيو عام 1924 أغمض الأديب التشيكي فرانز كافكا، عينيه إلى الأبد. تميز كافكا بأسلوبه الخاص والفريد، حيث تطغى عليه العبارات التي تعكس صراعاً نفسياً وعزلة قاتلة عاشها إنسان القرن العشرين، لما حمله ذلك القرن من صراعات وتناقضات كثيرة، حيث ظهرت الطبيعة الوحشية للحضارة الغربية التي تجلت في الحرب العالميتين الأولى والثانية، وهو ما ذهب إليه فرويد بقوله: «نحن نعيش في زمان شديد الغرابة والتعقيد، حيث عقد التقدم تحالفاً أبدياً مع النزعة الهمجية والبربرية». 
هذا الواقع خلّف اغتراباً إنسانياً جسده كثير من الأدباء في رواياتهم، فصوروا من خلالها كيف تُقوِّض معاول التقدم الإنسان وتشيئه، وتدفعه إلى الاغتراب الحقيقي، ليتحول إلى مجرد وقود بشري على موائد الرأسمالية المتوحشة.
ولأن الحروب والصراعات تمس جوهر الإنسان وهو الروح والعقل، وتضرب القيم والثوابت الأخلاقية، فإن كل ما يمس هذه الأبعاد الأساسية لجوهر الإنسان يدفع به إلى حالة الاغتراب، عندما يتعرض للاعتداء والتشويه. 
وظهر الاغتراب في روايات كافكا وقصصه مرتبطاً بواقعه المحيط به، وبعلاقته بأبيه المتسلط، وعلاقاته العاطفية الفاشلة وعمله الممل في مكاتب التأمين.
ومثل غيره من الأدباء الكثيرين الذين عاشوا في تلك المرحلة الملأى بالتناقضات والصراعات، استطاع كافكا أن يصور تلك الأحلام والكوابيس التي تعكس قلق وعزلة إنسان القرن العشرين، حيث كان يكره العمل، ويخاف الزواج، لأنه يعتقد أنهما سيسلبانه «هوية وجوده»، ويتجلى ذلك الاغتراب القاسي في ما خطه يراع كافكا، بشكل واضح في روايته «المسخ»، والتي يقول فيها: «استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحوّل في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم». جريجور العامل البسيط البائس بوظيفته التي تُجبره على الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن بائعاً متجولاً، في شقاء يومي متكرر، بالكاد يحقق له دخلاً يستطيع به أن يعول أسرته. تمنى جريجور/المتحول أن يكون هذا مجرد حلم مزعج سرعان ما يستيقظ منه، لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة أمنياته.. هكذا يدخلنا كافكا في عالمه الغريب في روايته التي عكست واقعاً مريراً.
والحقيقة أن الكثير من إبداعات هذا الكاتب ما كانت لتصلنا لولا خيانة صديقه ماكس برود لوصيته له، حيث يؤكد معظم المشتغلين والدارسين لكافكا أنه قال لبرود بالحرف الواحد: «احرق كل شيء دون قراءته، أريد أن ينساني الناس»، ولكن رود أولاً لم يحرق ورقة واحدة، وثانياً قرأ كل شيء، وثالثاً عمل كل ما بوسعه حتى لا ينسى العالم كافكا أبداً. لقد هجر برود دراساته، وصرف عشرين سنة من عمره (من 1930 إلى 1950) لينكب على دراسة واستخراج ونشر أعمال كافكا الذي عالج الظرف الإنساني وحقيقة العالم بطريقة ليس لها مثيل.
ومنذ أن أنقذ ماكس برود أعمال كافكا من النار، لم يخالف وصية صديقه كافكا وحسب؛ وإنما أدخله في كتاب التاريخ.
ولكن السؤال لماذا أراد كافكا إحراق مؤلفاته، على الرغم من أنه يعتبر من أحسن كتاب الرواية القصيرة الذين كتبوا بالألمانية على مستوى الأدب العالمي؟ 
هذا ما قد لا نجد إجابة عليه قاطعة حتى الآن، لكن الكثير منا تجتاحه الرغبة أحياناً للتخلص مما كتب، وكأنه يريد أن يتحرر من شرنقة لفّها على عنقه بنفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"