في هذا يشبهوننا

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

إنّهم يشبهوننا، حقّاً، حين يختلفون. تضيق المسافات بيننا حتّى لَتَكَاد لا تُرى أو تتبيّن فيها الفروق. يتوقّف الحضاريُّ عن أن يكون مائزاً عازِلاً، فلا يبقى غيرُ البشريّ جامعاً. نعم، الطّبائعُ والمنازِع البشريّة وحدها التي تتصرّف وتتكلّم، في مثل هذه الحال، فتَجُبُّ كلَّ ما تعلّمه العقلُ من ضوابط التّفكير وما تلقّنه اللّسانُ من أصول المخاطَبة.

 ذلكم ما يحصُل حين يدبّ الخلافُ بين الغربيّين؛ بين بلدٍ وبَلد أو داخل البلد الواحد بين قوى اجتماعيّة منه، فيدور على مسألة قد لا يدور بخَلَدِنا أنْ ستكون مدعاة لاستدرار كلِّ ما هو -عندنا - في حكم المخبوءات من قيم الغربيّين؛ فيَصْدِمُنا منه ذلك الكمُّ الخرافيّ من الأحقاد والعداوات المكبوتة المتبادلة، وتلك الكتلة الكثيفة من القول الثّقيل في التّخاطب بينهم. كأنّهم ليسوا هُمْ الذين نعرفهم؛ نعرف عقلانيّتهم واتّزانَهم وطرائقَهم في الكلام المنضبطة لقواعد التّخاطب الدّيبلوماسيّ. كأنّهم غيرُهم: نحن أو من يُشبهنا من المجتمعات والأمم في إرسال سائب الكلام، وخَرْق أعراف المخاطَبة بين الدّول! لِنَقِف، في إسراعٍ، عند مثاليْن حديثين من أمثلة انحطاط لغةِ السّياسة وأخلاقها في مجتمعات الغرب، ولدى نخبه السّياسيّة على وجه التّحديد. يتعلّق الأمر بالخلاف الفرنسيّ- البريطانيّ الأخير حول الصّيد البحريّ في مياه البلدين، وبالخلاف (الفرنسيّ- الأمريكيّ البريطانيّ الأستراليّ) حول صفقة الغوّاصات النّوويّة مع أستراليا.

 لم تستقبل فرنسا ما اعتبرته خرقاً بريطانيّاً لاتّفاق الصّيد البحريّ بما يليق به من إجراءات (مراجعة السّلطات البريطانيّة في الموضوع أو حتّى إرسال مذكّرة احتجاج رسميّ)؛ بل سارعت إلى احتجاز سفينةِ صيدٍ بحريّ بريطانيّة قبالة ميناء لوهافر الشّماليّ، وتوجيه تحذير إلى أخرى، وإعلان اعتزامها إجراء التّفتيش الجمركيّ للتّجارة البريطانيّة - بدءاً من 2 نوفمبر- ما لم توافق حكومة جونسون على منح تراخيص الصّيد للصّيادين الفرنسيّين في المياه البريطانيّة، أُسوةً بما يتمتّع به الصّيادون البريطانيّون من تراخيص صيدٍ نظيرة في المياه الفرنسيّة. 

لكنّ التّهديد الفرنسيّ بعرقلة التّجارة البريطانيّة لم يكن يكفي باريس؛ بل زادت عليه بالتّهديد بوقف تزويد بريطانيا بالطّاقة الكهربائيّة، ومنع الإمدادات الأوروبيّة لها عبر النّفق الأوروبيّ تحت بحر المانش، في ما يشبه تهديداً بحرب اقتصاديّة وتجاريّة؛ بل إنّ الأنكى من ذلك ما أدلى به وزيران فرنسيّان من تصريحات تفيد بأنّه آن الأوان لفرنسا لتتحدّث بلغة القوّة لأنّها اللّغة الوحيدة التي تفهمها بريطانيا. وقد أجبر ذلك الخارجيّة البريطانيّة على استدعاء سفيرة فرنسا لاستفسارها في شأن تلك التّهديدات. لينطلق، بعدها، كرنفال من المناقرات الكلاميّة بين الدّولتين ساهمت فيها أجهزة الإعلام والصِّحافة من الجانبين وأضفت عليها مزيداً من الحماوة.

 قبل هذه «النّازلة» بأسابيع، كانت فرنسا قد اتّهمت بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطانيّ، شخصيّاً بالتّآمر عليها في صفقة الغوّاصات النّوويّة المبرمة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأستراليا. هكذا استُخدمت - في الأزمة التي اندلعت بين الدّولتين في أعقاب ذلك - عبارات فرنسيّة عنيفة في وصف البريطانيّين من قبيل الخونة، والكذّابين والانتهازيّين، وعلى نحوٍ لم يكن مألوفاً في التّخاطب بين البلدين.

 ولم تكن الرّدود السّياسيّة البريطانيّة لتوفّر فرنسا والفرنسيّين من جهتها هي أيضاً. وكان شيء من ذلك العنف اللّفظيّ الفرنسيّ قد استُخدِم، أيضاً، في مخاطبة الإدارة الأمريكيّة، والتّنديد بموقفها الذي أجهض المشروع الفرنسيّ مع أستراليا. غير أنّ أمره لم يستفحل كثيراً - كما مع بريطانيا - فاكتُفِيَ منه بإبداء الغضب على السّياسة الأمريكيّة والأستراليّة باستدعاء السّفيرين الفرنسيّين من واشنطن وكانبيرا للتّشاور. 

 هذا انهيار لا سابق له في التّخاطب السّياسيّ بين دولٍ كبرى، ثلاث منها ذات عضويّة دائمة في مجلس الأمن، ويُفترض أنّ العالم يَكِل إليها فضّ منازعاته وصوْن الاستقرار فيه والسِّلم بين دوله، وأنّ موقعها هذا في النّظام الدّوليّ يرتّب عليها تبعاتٍ على صعيد القيم والأخلاق السّياسيّة! وربما يوجَد نظيرُ هذا التّخاطب الهابط في العلاقات بين القوى داخل البلد الواحد. ليست سوابق العهد التّرامبيّ في هذا الشّأن قديمة: في وصفه لخصومه الدّيمقراطيّين وللمتظاهرين والسّود الأمريكيّين. ويبدو أن العدوى انتقلت إلى فرنسا، وإلى داخلها السّياسيّ بالتّحديد.

هم في هذا يشبهوننا، و- بكلّ بساطة - لأنّ مجتمعاتهم الغربيّة باتت تشهد على حالٍ من التّصحُّر السّياسيّ حادّة. وليس أَدَلَّ عليها وعلى بؤس عاقبتها من هذه النّوعيّة الجديدة من النّخب السّياسيّة التي تؤول إليها مقاليد السّياسة والقرار فيها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"