عادي

ماركو بولو يمر بدبي

01:00 صباحا
قراءة 8 دقائق

يوسف أبولوز

ولدت في العام 1254 في مدينة البندقية، لأب تاجر بندقي عريق هو نيكولو بولو، وعلى الرغم من المناخ الثقافي والإصلاحي والسياسي الذي شهدته إيطاليا في القرن الثالث عشر، إلاّ أن عائلة «بولو» عرفت بالتجارة، فعمّي مافيو بولو تاجر هو الآخر، وسوف أحدثكم بالطبع عن رحلة أبي وعمي البرية إلى الصين بعد قليل، ولم أكن معهما في تلك الرحلة، غير أنني أردت القول إن إيطاليا ستشهد ولادة العبقري الإيطالي دانتي إليغييري في العام 1265، وكنت أنا آنذاك في نحو الحادية عشرة من عمري، لكن ستظل التجارة وفطرة السفر والترحال هي الأكثر تمركزاً في ذاتية الصبي الذي كنت آنذاك.

كانت إيطاليا في القرنين الثالث عشر والرابع وبعد ذلك، في ما يُسمى القرون الوسطى أو عصر النهضة وطناً للآداب والفنون والعلوم والتجارة، على الرغم من جائحة الموت الأسود التي اجتاحت العالم وفي الأساس منه إيطاليا في 1348، لكن كل ذلك، أي الجائحة كانت بعد ولادتي بزمن، فهل كنّا محظوظين كوننا لم نعش ذلك التاريخ الوجودي الحزين، لكن، هذا الحزن سأعرفه في نحو الخامسة عشرة من عمري حين توفيت أمي وكان والدي غائباً عن البيت في رحلته تلك إلى الصين.

ليست حياتي حياة أسفار كما قد يتبادر إلى قرّاء هذه القصة التي أتركها للتاريخ، فهي رحلة واحدة ستكون حدثاً مفصلياً في العالم، إمّا لأنني محظوظ، وإمّا لأن العالم آنذاك قبل أكثر من 800 عام كان في حاجة إلى طفولة الكتابة والسفر والوصف، ولكي أستفيد من كل كلمة أكتبها الآن، أقول بسرعة إن والدي نيكولو أو نيقولا وشقيقه عمّي مافيو توجّها إلى بلاد القرم في إحدى رحلات تجارتهما التي كانت تعتمد، على ما يبدو، على السفر والرحلات، ولكن في تلك الرحلة أي في نحو 1260 تنشب حرب التتار، الأمر الذي كما يبدو بالصدفة - جعلهما يتوجهان إلى مدينة كاثاي، وهناك يلتقيان الخان الأعظم واسمه قبلاي خان، وهنا سيلعب الحظ دوره مرة ثانية في حياة أبي وعمّي وفي حياتي أنا شخصياً، فسوف أكون ذات يوم واحداً من الرجال المقرّبين للخان الأعظم، وحقيقة، سيولد اسمي في الصين إن جاز القول، ومن بعد سيتمدد إلى أوروبا.. «هذه الأوروبا» التي راح الخان الأعظم يتقصّى كل شيء عنها من خلال والدي وعمّي، فيطلب منهما الخان العودة إلى أوروبا وضرورة لقاء البابا، لأن الخان الأعظم كان يريد لأهل كاثاي أن يدخلوا المسيحية، وطلب منهما أيضاً أن يجلبا له قارورة من الزيت المقدّس من بيت المقدس، وفعلاً سيصل والدي وعمّي إلى مدينة عكا، ولقد تبيّن لهما أن البابا مات، فقفلا - عائدين إلى البندقية في 1269.

بداية فعلية

عملياً، ستبدأ حياتي كرحّالة حقيقي في العام 1271، حين كنت في نحو السابعة عشرة من عمري، وفي نحو منتصف 1275 بلغنا أنا وأبي وعمّي بيكين أو بيجين، وبسرعة سأتعلم لغة التتار، وبالطبع سأتعلم عادات الشعب الذي أعيش في دياره.. وهكذا، قرّبني الخان إليه، واستخدمني في بعض الوظائف الحكومية، وسنمضي في ديار الخان حوالي سبعة عشر عاماً، وعندها، ستبدأ رحلة العودة إلى البندقية.

هناك تفاصيل كثيرة بالطبع في هذه السيرة الموجزة، لكن دائماً أقول إن الحظ يمشي في ظلّي إن جازت هذه العبارة الشعرية، ففي هذا الوقت الذي كنّا نتهيأ فيه لرحلة العودة حدث أن خاناً يدعى ارغون خان فارس أرسل إلى الخان قبلاي يريد خطبة إحدى الفتيات، وسوف يجري تجهيز أسطول سفن لنقل العروس بطريق البحر، وهنا، يرافق البنادقة الثلاثة، أي الأب والعمّ وماركو بولو أسطول العروس، وتستمر الرحلة إلى عامين مات خلالهما الخان، فسلّمت البنت العروس إلى ابنه.

كُتِبَ عني العشرات، وربما المئات من الكتب والدراسات، وسوف أكون ملهماً تاريخياً لكتّاب السير وأدب الرحلات، ولكنني حين بدأت رحلتي، وأنهيتها في البندقية، وقبل ذلك مرضت، وأسرت، لم أكن أعرف أن كل هذا المجد ينتظرني في زمنك. أنت الآن أيها القارئ التي تقرأ هذه الشهادة التي أكتبها في شيخوختي، وربما تركتها على شكل مخطوط، فيه رؤوس أقلام، ثم أحد أحفاد أحفادي كتبها هكذا بهذا الاجتهاد السردي، وهو يعثر على كتاب أو مخطوط آخر لرحّالة ألماني هو يوهان شيلتبرغر 1380 إلى 1440 الذي أمضى سنوات طويلة من حياته رحّالة في المشرق العربي والإسلامي وأوروبا وآسيا وإفريقيا، وهو أيضاً -شيلتبرغر جرى أسره مدة 32 عاماً، ولكن - ارتبط اسمي باسمه: إذْ يُقال عن يوهان شيلتبرغر بأنه: «ماركو بولو الألماني».

الأسر في جنوة

على أي حال، أردت فقط أن أخبرك عن مدى القيمة المعنوية الثقافية التي أمتلكها الآن، وإذ أعود إلى سرد رحلتي، ففي طريق العودة إلى البندقية حُمِلتُ أسيراً إلى جَنَوة وأمضيت في الأسر ثلاث سنوات، ومرة ثالثة أو رابعة وربما ليست أخيرة سيلعب الحظ لعبته معي، فقد يَسَّرَ الله لي زميلاً أسيراً معي يُدعى رستكيان هو الذي أمليت عليه كتاب رحلاتي هذا الذي يتداوله الناس إلى اليوم، ويتتبعون من باب الفضول خريطة طريق رحلتي من البندقية إلى الصين، ومن الصين إلى البندقية، ففي مئات القصص والحكايات، سأسرد بعضها في هذا الموجز، وبعضها - أتركه للقراءة في زمن ثقافة أدب الرحلات، منبّهاً عليك أيها القارئ الصديق أن هناك من شكّك في رحلتي إلى الصين، وبعض البحّاثة وربما الرحّالة ذهب بهم شطط التشكيك بي إلى القول إن كتاب رحلاتي هو مجرّد تخيّلات، ولكن كيف تكون هذه تخيلات وأنا سأضع أمام المشككين بي خريطة طريقي، وما رأيت في المدن، والأنحاء، والبلدات، والأقاليم.

لتكن الخريطة من نهايتها، وسوف أستعير في هذه السردية التي اخترت لها ضمير المتكلم أن أتقمّص وصفاً لإحدى الكاتبات الإنجليزيات فرنسيس وود، وجاء هذا الوصف للحظة وصولنا إلى الرصيف الحجري لميناء البندقية، وهنا أستعير هذا الوصف بضمير المتكلم: «.. وصلنا ميناء البندقية، لم يكن هناك أحد لاستقبالنا، ولولا أن كانت ملابسنا رثة ممّا لفت الأنظار لنا لمرّت عودتنا إلى الوطن دون أن تلفت أي نظر. كانت تلفّنا مسحة تترية معَيّنة، فقد كدنا ننسى لغتنا - البندقانية. كنا ننتعل أحذية جلدية وسخة تصل أعناقها إلى الركب، ونرتدي أثواباً حريرية مبطنة لها زنابير عند الخاصرة من الحرير».

الحقيقة أن ثمة راوياً قد اعتمدت عليه مؤلفة هذا الكتاب الذي يشكك في وصولي إلى الصين، ويقول الراوي ويدعى «رمّوزيو».. «.. خلعوا أثوابهم الرثة ولبسوا أردية بندقانية طويلة من الحرير القرمزي تلامس الأرض، ثم انقضّوا على أثوابهم المغولية الرثة، وراحو يمزّقون البطانات، حتى سقطت على الأرض من مخابئها في الدرزات، أعداد من أحجار الزمّرد، والياقوت الأحمر والعقيق والماس والياقوت الأصفر..».

مهلاً، لم أكن أنا وعمّي وأبي مهرّبين أو لصوصاً أو قطاع طرق البحر، يسمّون «القراصنة»، بل نحن تجار شرفاء. كانت رحلة أبي وعمّي رحلة برية قد تكون الأثر السابق للمُسمّى «طريق - الحرير» الذي أطلقه العالم الجغرافي الألماني فرديناند ريتشهوفن عام 1877 على شبكة الطرق التجارية التي تربط الصين بآسيا وأوروبا، ولم يكن هدفنا من الرحلة إلى الصين هو الحرير الذي اكتشف الصينيون صناعته في حوالي 3000 قبل الميلاد، بل كانت رحلة فضول واكتشاف وربما مغامرة، صحيح عدنا إلى البندقية بالزمرد والياقوت الأحمر، ولكن ذلك كله لن يكون مجداً أبدياً.

فضاء «الوصل»

إن الحرير الآن، والجواهر، والقماش، والبخور والعطور وحتى الغناء والموسيقى والمذاقات التي عرفها أبي وعمّي في طريق البرّ إلى الصين، وما عرفته أنا في طريق العودة البحرية إلى البندقية من تحف، وأحجار كريمة، وحتى اللوحات، والفاكهة كلّه في العصر الحديث موجود في مدينة تُسمّى «الوصل» هي دبي على الخليج العربي، حيث بالقرب من هرمز وعدن كانت رحلتي قبل أن أمرض في مدينة بالاكشان بعدما اخترقت طريق عودتنا حاضرة تسمّى «خراسان».

ذلك فضاء رحلتي أنا ماركو بولو الذي أبلغ الآن حوالي الأربعين من عمري أو أكثر. فضاء «الوصل» الاسم الأول لمدينة دبي، البحرية، اللؤلؤية، العالمية. وما كان لا نراه في حواضر الصين من مهرجانات، سيكون في الزمن بعد موتي في 1324، أي بعد حوالي 800 عام أو أكثر موجوداً في حدث سيكتب عنه الرحّالة أيضاً: «إكسبو دبي» في 2022 ميلادية.

في رحلتي عرفت تقارب وتلاقي الجغرافيات في طريق الحرير من أبي وعمّي، وفي طريق الهند البحرية عرفت ورأيت تلاقي الجغرافيات والشعوب، هذا التلاقي موجود في «الوصل»، المدينة التي من اسمها القديم، هي مكان الوصل بين الحضارات والثقافات والشعوب.

طريقي كان طويلاً، وإقامتي في بلاط الخان الأعظم قبلاي كانت أطول، ولكن، قد تسألني.. هل أحببت هناك؟ هل ثمة امرأة في حياتي؟ لا. لم تكن أنا الفتي الشاب المقبل على الحياة بقوّة والمقرّب من الخان، لم تكن في حياتي امرأة. هل خانني الحظ هناك. لا أدري، بل، قد تكون أخلاقيات الوفادة والزيارة والحظوة عند الخان الأعظم قد حالت دون أن تكون في حياتي امرأة.

لقد أمضيت فترة من حياتي في بيت أحد أخوالي. بعدما ماتت أمي، وإذ استدرك بهذه المعلومة، فقط، لأشير إلى جانب من طفولتي، الذي قد يكون له أثر في علاقتي بالمرأة في حدّ ذاتها.

رؤى

لقد رأيت مدناً كثيرة في ذهابي، وإيابي. خريطة طريق تليق برحّالة أو مسافر شاب، والأحرى أنني لم أكن أدرك أنني رحّالة، وربما أنا لست كذلك، أنا على الأغلب تاجر ابن تاجر، رأى: بلاد القرم، عكا، حواضر البحر الأسود، أرمينية، الخليج العربي، وفي طريقي رأيت عدن، وقبل عدن رأيت ما لم يره أحد قبلي.. تلك القلعة التي شيّدها حسن الصباح، زعيم الحشّاشين، في مكان أطلقت عليه في كتابي «شيخ الجبل».. وإليك ما أمليته على زميلي في السجن، وكتبه في كتابي: «.. أذكر شيئاً عن شيخ الجبل، وأطلق على الناحية التي يقع فيها مقر حكمه باسم منطقة الملاحدة، ومعناها بلغة العرب والمسلمين مكان الهراطقة، كما كان قومه يسمّون بالملحدين، أي المؤمنين بالشعائر المتهرطقة، وذلك، كما نطلق مصطلح الباثارين على بعض الزنادقة المسيحيين».

أنا وكونفوشيوس

كما تعلم أنت فقد وُلِدَ كونفوشيوس في 551 وتوفي في 479 قبل الميلاد، وحين وصلت أنا الصين فتىً يافعاً أو شاباً في مقتبل حيويته وحرارته كانت فلسفة كونفوشيوس الأخلاقية، الإنسانية، التأملية قد شملت كوريا واليابان وفييتنام وتايوان ومعظم بلدان وشعوب آسيا القصوى وليس الصين وحدها، وقد تسألني لماذا لم آت على ذكر هذا الفيلسوف الذي كان يُلَقّب «نبيّ الصين» في كتابي الذي أمليته على «رستكيان» صاحبي في سجن «جَنَوة»، وأقول لك إن ما كان يهمّني في رحلتي تلك هو خدمة الخان الأعظم، وربما، لم أشأ أن أخالط مسيحيّتي بفلسفة أو بفكر يشوّش عليّ، وقد يزعج أبي وعمّي اللذين بَدَيا لي على شيء من التزمّت في دينهما، فآثرت أن أنأى بنفسي إلى الترحال والخدمة والقناعة بالجواهر والمال.

لكنّك قد تشكك في ثقافتي وفي تعليمي، وتتساءل لماذا لم أكتب أنا بيدي كتاب رحلاتي، ولم أُمْلِهِ على «رستكيان» وهنالك أن تتخيل محنة السجن عند أولئك الجنويين المتزمّتين، وكان «رستكيان» أمهر مني في التلقّي والنسخ، وكنت أنا صاحب عقل رحّالة، وفي طبيعتي شيء من عدم الصبر، والله أعلم، وفي كل حال بقيت على طبعي وطبيعتي.

ألوان وأديان

رأيت شعوباً - لها معتقدات أخذت بِلُبّي، ومع ذلك اقتربت منها وعاينتها: «رأيت في مدينة تسمّى ساتشيون تابعة للخان الأعظم كيف يتم إحراق جثة الميت. لا يجرؤ أقارب الميت على حرق الجثة حتى يحدد المنجّمون الزمن المناسب وفقاً لخريطة البروج، أو الكواكب،.. «.. فإذا تصادف أن لم يكن نفس الكوكب عندئذ في الطالع، أمروا بالاحتفاظ بالجثمان أسبوعاً آخر أو أكثر، بل حتى إلى مدة ستة أشهر قبل السماح بإقامة حفلة الحرق..».

ورأيت في منطقة تُسمّى «كامول» خاضعة للخان - الأعظم، رجالاً منغمسين في الملذات، لا يهتمون بشيء عدا اللعب على آلات الموسيقى والغناء والرقص والقراءة والكتابة حسبما جرت به عادة الإقليم.

وفي سمرقند وكان اسمها في زمني = سمركان= رأيت حدائق جميلة تنتج ما يشتهيه الإنسان من الفواكه، والسكان بعضهم عرفت منهم أنهم يعتنقون الإسلام، وبعضهم الآخر يعتنق المسيحية.

رأيت بشراً من نحل وملل وطوائف وعرقيات وألوان وأديان على امتداد الجغرافية التي خبرتها من البندقية إلى الصين، كما ترى أنت الآن العالم كلّه في دبي، على الخليج العربي.. «الوصل» الحضاري والثقافي والاقتصادي والتجاري من الصين، إلى آسيا، إلى أوروبا، حيث العالم برحّالته، وفنّانيه، ورسّاميه، وخرائطييه في مكان واحد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"