هل «المجانين في نعيم»؟

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

قيل، والله أعلم، إن الحماقة في أزمنة كثيرة لم تعد سبَّة، فكثير من الحمقى تصدروا المشهد، رغم أن الحماقة فساد في العقل أو الذهن. وقال شاعر عظيم عنها ذات يوم: «لكل داء دواء يُستطب به / إلاَّ الحماقة أَعْيَت من يداويها».

في ظل الحماقة، تضطرب الشخصية النرجسية، ويرتفع منسوب الشعور المتضخم بالذات، والغرور والسفه، وقيل إن الأحمق هو مجنون لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.

تذكرت أنني شاهدت في إحدى زياراتي إلى متحف اللوفر في باريس لوحة فنية شهيرة اسمها «سفينة الحمقى» رسمها فنان هولندي في نهاية القرن الخامس عشر، رُكابها من المجانين، إلا أن قبطانها شخص حكيم، وماهر، ويقودها بعيداً عن المدن خشية حماقات ركابها، لكن الكارثة تقع حينما يكون القبطان معتوهاً أو أحمق أو سفيهاً.

تذكرت زعيماً عربياً فكك بلاده وأدخلها في تيه طوال أربعة عقود، وبدد ثرواتها وأعاق تقدمها وتعليمها وصحة أبنائها، من خلال سياسات بلهاء، وتصرفات سفه وهذيان وحماقات مدمرة، وقدم نفسه روائياً ومنظراً في السياسة والحرب والاقتصاد والفكر، ومن كتبه «دولة الحقراء» ومجموعة قصص صبيانية سماها «الأرض الأرض والقرية والقرية وانتحار رائد الفضاء»، وقال عنه أدباء منافقون، ومثقفون دجَّالون، إنه «يملك إبداعاً وأدباً لا مثيل له»، وتساءلت يومها، عمَّن «فرعن الفرعون» حتى تصور نفسه ملهماً ذا رسالة كونية. وأذكر أنه، في مطلع شبابه «الثورجي»، وقف في مؤسسة «الأهرام» بالقاهرة، أمام عمالقة الأدب والفكر، يشرح الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة، ويكتشف أن «الرجل لا يحيض».

ومن أسف، كان كثير من المثقفين يكتفون بتناقل نوادره في مجالسهم، وخاصة حينما كان يقول إن الشاعر الإنجليزي الكبير شكسبير هو في الأصل عربي واسمه «الشيخ زبير» وإن الديمقراطية في أصلها هي «ديمومة الكراسي» وليس حكم الشعب، وإنه يتوجب على أوروبا أن «تدخل الإسلام».. إلخ.

يغيب الحمقى عن الدنيا بعد أن يفككوا أعمدة أوطانهم، ويُدمروا بلادهم، ويتركوا التاريخ يروي هزلهم الشاذ في السياسة والأخلاق، وجنون العظمة والتعالي.

تذكرت، والعالم يتابع الحرب الروسية - الأوكرانية، رواية قديمة لكاتب روسي/ أوكراني سماها «يوميات مجنون» عبّر فيها الكاتب عن عقدة العظمة وصولاً إلى انفصام الشخصية والهلوسة، واستحضرت صورة هتلر، وهو في حالة من الهذيان والثورة العصبية وشهوة الهيمنة، وصوراً أخرى، ولا أدري لماذا حضرت صورة المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، الذي تسببت قراراته العصبية بهزيمة عسكرية مريرة في العام 1967؛ وذلك حينما أمر بانسحاب الجيش المصري من جنوب سيناء إلى غرب القناة، ولم يكن قد مر على بداية القتال إلا أقل من عشرين ساعة. وكان الانسحاب فوضوياً، وضحيته عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى.. وحينما تقرر «تغيير الخيول، بعد أن ظهر عجزها في أثناء السباق» تجرع السم وانتحر في أغسطس 1967.

تتذكر الأجيال الشابة، الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن، صاحب الحضور الباهت، حينما سلمت أمريكا مقاليد السلطة فيها لشخص «لا يعرف ولا يستحق» صاحب ملف ضخم من النكات والنوادر، تنصب جميعها على الغفلة والتفاهة، وقد تحدث عن بعضها المؤلف والمخرج السينمائي الشهير مايكل مور في كتابه «رجال بيض أغبياء»، وسخر فيه من بوش الابن وفضح شخصيته وأكاذيبه، وأذكر كيف صرخ مايكل مور على المسرح، أمام كاميرات العالم التي كانت تنقل احتفالات الأوسكار لعام 2003، قائلاً: «عار عليك يا بوش هذه الحرب العبثية في العراق».

نعم، إن الديمقراطية لا تمنع وجود رؤساء حمقى أو مجانين أو سفهاء أو أغبياء وبخاصة حين يصبح الغباء السياسي في حالة إفراط، وانفصال عن الواقع.

ماذا لو سُنّت قوانين دولية ملزمة وأخرى محلية في كل دولة، تفرض على كل مرشح لمنصب سياسي رفيع إجراء كشف طبي موثوق به علمياً، للحيلولة دون انتخاب أو تعيين أحمق أو مهووس أو مفرط في بلادته وغبائه، وخالٍ من العقد النفسية، وبما يضمن للبشرية أن ساستها في كامل قواهم العقلية والنفسية والمعرفية والأخلاقية أيضاً.

.......

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"