عادي

الاعتدال في كل شيء حتى العبادات

22:22 مساء
قراءة 4 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً عظيماً مثل رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صاحب رسالة عظيمة وحسب، وإنما كانت سيرته ومسيرته التي امتدت نحو ثلاثة وستين عاماً، أنموذجاً فريداً لرسول عظيم، ونبيٍّ كريم، وقائد مُلهَم، وإنسان بلغ من الصدق والأمانة والرأفة والرحمة والتسامح مع الآخر مبلغاً لم يصل إليه أحد من العالمين، ولِمَ لا وقد قال الله في شأنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4 5]

قال الله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. (النساء: 105-109). وقال تعالى:«وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (الأنعام: 152)، وقال جلَّ شأنه:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا«(النساء: 135).

ومن المواقف النبوية التي وردت بالسيرة النبوية الشريفة، والتي تبيّن مدى حرصه، صلى الله عليه وسلم، على العدل، موقفه مع الصحابي سواد بن غزية، رضي الله عنه، في غزوة بدر، حيث قال ابن إسحاق: حدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه، أن رسول الله عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح (سهم) يعدل به القوم، فمرّ بسواد بن غزية، حليف بني عدي ابن النجار، وهو خارج من الصف، فطعن رسول الله بالقدح في بطنه، وقال:«استوِ يا سواد». فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني (أيْ: اجعلني أقتص منك). فقال له رسول الله:«استقد». قال: يا رسول الله، إنَّك طعنتني، وليس عليَّ قميص. قال: فكشف رسول الله عن بطنه، وقال: استقد، قال: فاعتنقه، وقبَّل بطنه، وقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا رسول الله له بخير».

وروى البخاري ومسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي، رضي الله عنه، وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقسمها رسول الله بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان، فغضبت قريش، فقالوا: أتعطي صناديد نجد وتدعنا، فقال رسول الله: «إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم»، فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد، قال، فقال رسول الله: «فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني»!!

وكان من سنته، صلى الله عليه وسلم، الاعتدال في كل شيء، بما يحقق العدل، حتى وإن كان الأمر متعلقاً بعبادة من العبادات، فكان يأمر أصحابه بالعدل في الأمور كلها، قال لأحد أصحابه، بلغه أنه يبالغ في عبادته: «يا عبد الله بن عمرو، بلغني أنك تصوم النهار، وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حظاً، ولعينك عليك حظاً، وإن لزوجك عليك حظاً».

أخرج الشيخان عن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، أن رجلاً من الأنصار، خاصم الزبير عند النبي في شراج الحرة التي يسقون بها النخل (شِراج: جمع شرج، وهو مسيل الماء من المرتفع إلى السهل، والحَرَّة: الأرض الصلبة الغليظة ذات الحجارة السوداء)، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي، فقال للزبير: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك». فغضب الأنصاري فقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» (أي: حتى يصل الماء إلى أصول النخل). فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء: 65).

امتد عدله، صلى الله عليه وسلم، إلى غير المسلمين، فلا فرق عنده بين مسلم وغيره في الحقوق؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حلف على يمين وهو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقيَ الله وهو عليه غضبان». وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إلى النَّبيِّ، فقال لي رسول الله: «أَلَكَ بَيِّنَة؟» قلتُ: لا. فقال لليهودي: «احْلِفْ». قال: قلتُ: يا رسول الله، إِذًا يَحْلف ويذهب بمالي. فأنزل الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (آل عمران: 77).

ومن صور حرصه، صلى الله عليه وسلم، على إقامة العدل، حرصه على العدل بين الأبناء؛ روى البخاري في صحيحه، عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله، فأتى رسول الله فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع فردّ عطيته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"