المعرفة أقوى محركات الإنتاجية

21:46 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي

في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت التكاليف غير المسعّرة هي التي احتلت مركز الاهتمام. وعرف العالم الانتشار السيئ، مثل نفاد الموارد، والتلوث، والازدحام، باعتبارها «مشاكل العامة»، وهي المؤثرات الخارجية التي تظهر على الساحة عندما تكون الموارد الثمينة مملوكة للجميع - كالمراعي على سبيل المثال - وهنا يرغب الجميع في الحصول على أكبر قدر من الغذاء لحيواناته، ولا يكون لدى أي من المزارعين سبب في أن يعمل على تنظيف قطعة أكبر من الأرض ليزيد من مساحة المرعى، طالما أن الرعاة الآخرين سيستفيدون من هذه المكاسب.

وتم إغفال دور المؤثرات الخارجية الجيدة التي ذكرها عالم الاقتصاد ألفرد مارشال في نموذجه آنذاك بصورة كبيرة، وهي مجموع الفوائد المتاحة للجميع بالمجان التي تؤكد أن هناك من هو مستعد ويرغب في التسابق في مجال معين من الأعمال، بفضل هذا الشيء المتاح في الهواء.

أما الأمر الهام الذي لا بد من تذكره فهو أن المؤثرات غير المباشرة هي الآثار الجانبية المجانية للنشاط الاقتصادي، والتي لا يتم التعبير عنها في السعر، والتي لا تلزم كتابتها في حسابات التفاضل الملحة والخاصة بالإنتاجية الحدية. وفي حقيقة الأمر، أنه لا تمكن كتابتها، فهي ليست مدخلات، كما أنها لا تتطلب تعويضاً، وليس لها أي دور في هندسة الأسعار، ولذلك فإنها لا تتطلب أي وصف.

وحافظ الانتشار على سلامة نظام مارشال، كأداة ذكية لتحقيق التصالح بين العوائد المتزايدة وافتراض اليد الخفية للمنافسة الكاملة.

وأدرك مارشال أن هناك نهايات غير محددة لتحليله، وعند نقطة معينة قام بإعادة ما قاله جون ستوارت ميل: «المعرفة هي أقوى محركاتنا الإنتاجية؛ فهي تمكننا من إخضاع الطبيعة وإجبارها على الوفاء باحتياجاتنا».

وفي منعطف آخر كتب: «إن التفريق بين الملكية الخاصة والمعرفة العامة في المعرفة والتنظيم له أهمية عظيمة ومتنامية. وفي بعض الأحيان يكون أكثر أهمية من التفريق بين العام والخاص في الأشياء المادية؛ وجزئياً لهذا السبب يبدو من الأفضل في بعض الأحيان أن يتم حساب التنظيم على حدة على أساس أنه أحد عوامل الإنتاج».

ولكن لا تزال الومضات المضيئة لأكثر المشكلات المؤرقة مدفونة في الهوامش الجانبية والأخيرة لكتاب مارشال.

وفي ختام قسم المبادئ المخصص لعوامل الإنتاج، قام مارشال بتلخيص حالة التوتر بين تزايد وتناقص العوائد، وبين اليد الخفية ومصنع الدبابيس، وفقاً لقياس قوى آخر. فتلك المنشآت، حسب قوله «كانت مثل الأشجار العظيمة في الغابة، عاجلاً أو آجلاً، يؤثر العمر فيها جميعاً».

ولكن هنا يمكن قراءة درس من الأشجار الشابة في الغابة والتي تناضل لتصعد في الظل المخدر لمنافسيها القدامى، عديد منها يستسلم في الطريق. وقليل فقط يبقى على قيد الحياة، تلك القلة تصبح أقوى بمر السنين، فهي تحصل على نصيب أكبر من الضوء والهواء مع كل زيادة في ارتفاعها، وأخيراً، عندما يأتي دورها فإنها ترتفع فوق جيرانها، ويبدو أنها ستستمر في النمو إلى الأبد، وأن الأبد يصبح أقوى كلما كبرت تلك الأشجار. ولكن ذلك لا يحدث. حيث ستظل إحدى الأشجار محتفظة بقوتها ويزيد حجمها مقارنة بالأخرى، ولكن، إن عاجلاً أو أجلا، يؤثر العمر فيها جميعاً. وبالرغم من أن الأشجار الأطول لديها قدرة أكبر في الحصول على الهواء والضوء مقارنة بمنافسيها، فإنها تفقد حيويتها تدريجياً؛ وتفسح المكان واحدة تلو الأخرى لأشجار أخرى، والتي بالرغم من كونها أضعف، فإن قوة الشباب تقف إلى جانبها.

هكذا انزلق تصور المؤثرات الخارجية بشكل سلس في الأدب، ومرة أخرى، اعتبر الممارسون الأوائل للاقتصاد أن علم الاقتصاد أصبح على وشك الاكتمال. وقد كان منطقه ضيقاً للغاية، حيث إن تعامله مع نظام التحليل الحدي كان عادة ما يقارن بإنجازات علم الفضاء الكلاسيكي، أو جدول الأوزان الذرية في الكيمياء. وفي عام 1908 تنحى مارشال عن ممارسة المهنة. ولم يكمل أبداً الجزء الثاني من کتابه، كما لم يرجع أبداً لموضوع التعامل مع المعرفة على أنها أحد عوامل الإنتاج، ولم يتخل أبدأ عن شكوكه حول نظرية الإنتاجية الحدية، على الرغم من استقراره على الرياضيات: «مضى حرث جيل آخر، ولن تستمر سيادة هذا الجيل على المجال المحدود والهام للتساؤل الاقتصادي الملائم له كما لن تستمر في الصراع في أغلب الأحوال». وتوفي مارشال عام 1924.

وعند اجتماع الاقتصاديين بعد ذلك بعامين في جامعة شيكاغو للاحتفال بمرور150 عاماً على كتاب ثروة الأمم، كانوا يحتفلون ضمنياً بالتحليلات الحدية للقيمة والتوزيع التي قام بها مارشال، وليست مساهمات سميث. وكانت أفكار مارشال حول اقتسام الإنتاج القومي بين رأس المال والعمل والأرض، تذهب وتعود في رأس أحد الاقتصاديين الذي يدعى بول دوجلاس، الذي أخبر الجميع أنه قد يكون من الأفضل المرور سريعاً على تلك الأفكار «بصمت حذر»، لمصلحة موضوعات أخرى مثل تقسيم العمل «والتي ظهرت فيها مواهبه الواقعية».

وعلى الرغم من الجو العام لتهنئة النفس، فإن العديد من الاقتصاديين الشبان في العشرينات من القرن العشرين أدركوا أن هناك خطأ ما في نظام مارشال، وخاصة في تعامله مع تزايد العوائد، بسبب أن الهدية الظاهرة «للاقتصادات الخارجية» تحولت إلى شيء شبيه بحصان طروادة. وقد أثار «بيجو» الخليفة المنتقى لمارشال في جامعة كامبريدج جدلاً حول فكرة أن «المؤثرات الخارجية» كانت معروفة ومنتشرة على نطاق واسع حتى، إن الحكومات أصبح عليها أن تدعم تلك الصناعات التي تتربح من تناقص الكلفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/7sswm2xb

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"