عادي

ألوان الحب

22:40 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

مع البدايات الأولى والباكرة للحركة التشكيلية في الإمارات، كان الوطن هو الموضوع الرئيسي والأساسي للفنانين التشكيليين في مختلف أشكال وأنواع الإبداع البصري، وكانت الدولة، من جانبها، شديدة الاهتمام منذ ذلك الحين بأن يتطور هذا الفن منذ أول معرض تشكيلي أقيم لفناني الإمارات بالمكتبة العامة في دبي، عام 1972م، والذي ظهرت فيه العديد من الأسماء والنجوم، مثل: محمد يوسف وعبدالرحمن زينل وفاطمة لوتاه، لتنتشر بعدها المراسم لتدريب الشباب على الفنون التشكيلية، وأرسلت الدولة أبناءها الذين ظهرت موهبتهم في هذا المجال لدراسة أصول فن الرسم ومدارس الفن التشكيلي في دول عربية رائدة، مثل مصر والعراق، وكذلك مراكز دولية اشتهرت بالفنون مثل إنجلترا وأمريكا وإيطاليا، وغيرها من الدول.

كان الوطن حاضراً منذ تلك اللحظات التأسيسية، وبرزت أشكال من الفنون البصرية المعبّرة عن حب الأوطان في الرسم والمنحوتات، والأعمال الفولكلورية مثل الحياكة والتطريز، حيث تجسدت في تلك الأعمال معاني الهوية والانتماء والفخر بالدولة، وكان الوطن حاضراً كذلك من خلال اهتمام الفنانين الباكر بالبيئة المحلية، فتلونت اللوحات بألوان البحر والصحراءن وما تحمله من دلالات وعلامات تعزز من الهوية الوطنية، وكذلك من خلال الاحتفاء بالمكان، حيث اتجه فنانون إلى رسم الأحياء القديمة والبيوت والمقاهي والأبواب التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ولا يزال عدد منهم يمارس فعل رسم تلك المواضيع بدافع الحنين إلى تلك الأزمان والأماكن، وهناك العديد من اللوحات التي تخصصت في رصد العادات والتقاليد الاجتماعية وتفاعل الإنسان الإماراتي معها، إذ إن مرحلة السبعينات من القرن الماضي، والتي شهدت ميلاد الدولة، تميزت بحراك تشكيلي متنام ونشط، بدعم كبير من الجهات الحكومية المهتمة بالفنون التشكيلية، وبالتالي اتسعت قاعدة المعارض الفنية داخل الدولة، وانتشرت أسماء مجموعة من الفنانين الذين يمكن اعتبارهم الرعيل الأول في الحركة التشكيلية، كما شهد ذلك الوقت تأسيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية.

ثقافة غنية

وعلى الرغم من ذلك الدعم الكبير للدولة للحركة التشكيلية الناشئة، إلا أن حضور الوطن في أعمال الفنانين لم يكن ناتجاً عن ذلك الاهتمام فقط، ولم يكن في الوقت نفسه حالة عابرة، بل أصيلة ومستمدة من محاولات التعبير عن ثقافة غنية ومتعددة وراسخة، فقد عمل الفنانون على عكس ما يجيش في أنفسهم من مشاعر تجاه وطنهم في أعمال فنية، ونجد ذلك الأمر واضحاً في أعمال العديد من الرواد من الفنانين الإماراتيين، مثل: د. محمد يوسف، ود. نجاة مكي، وعبد الرحيم سالم، وعبد القادر الريس، وعبيد سرور، وكريمة الشوملي، ومحمد القصاب، ومنى الخاجة، وعبيد سرور، ومحمد مندي، وخالد الجلاف، وإبراهيم العوضي، وغيرهم، ممن احتشد لوحاتهم بصور الوطن المختلفة والمتعددة بثيمات كذلك متنوعة، وبصورة خاصة البحر والصحراء، تلك التي تلهم روح الفنان وتحرّضه على الإبداع، لكونها مفردات البيئة التي نشأ فيها وانتمى إليها، لذلك نرى صور البحر والصحراء في العديد من الأعمال والإبداعات الفنية الإماراتية، حيث إن البحر يحمل ذاكر العيش على الضفاف، والغوص من أجل صيد اللؤلؤ، وما يتبع ذلك من تفاصيل اجتماعية وثقافية، شكلت وجدان الفنان، وكذلك الصحراء بثقافتها المختلفة، حيث الحياة البدوية القاسية، لذلك من الممكن القول إن الدولة نفسها كانت عبارة عن لوحة تشكيلية تحمل ذلك التعارض والتناقض البيئي بين بحر وصحراء اتحدا في مشهد اللوحة، وكوّنا معاً صورة الوطن الجميل بألوان ساطعة.

متغيرات

ولئن كان الفنان الإماراتي اهتم بصورة كبيرة بالبيئة المحلية القديمة العامرة بالألوان والزاخرة بالأشكال، فهو كذلك عبّر عن المتغيرات العصرية بعد تطور الدولة وازدهارها، حيث برزت تحولات معمارية رهيبة، وحدثت نقلة من حياة الغوص إلى الأعماق، إلى التحليق عبر تلك البنايات الشاهقة، وذلك التغير كان مصدر إلهام للمبدعين في كل المجالات وللفنانين التشكيليين بصورة خاصة، لكونها قد عبّرت عن نهاية حقبة تاريخية وبداية أخرى جديدة، بالتالي حملت أشكالاً ومفردات وألواناً جديدة، ولعل تطور الفنون نفسه، إلى جانب المتغيرات العصرية، نقل الإبداع التشكيلي الإماراتي نحو فضاءات جديدة، فظهرت تيارات حديثة وعصرية مثل المفاهيمية، والتي لم تغب عن مشهدها، هي الأخرى، صورة الوطن، حيث كانت تلك النقلات الإبداعية خير معبّر عن التحولات المعمارية والاجتماعية الحديثة عبر استخدامات الصور والتراكيب والمنحوتات والأشكال الهندسية، ودلالات وانعكاسات الضوء والظلال، ومع مختلف أشكال الحداثة الفنية التي نرى تفاعلاتها في المشهد التشكيلي والبصري الإماراتي، وفي تجارب هؤلاء الفنانين من خلال المعرض السنوي لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية وفي مختلف المعارض الفنية في الدولة، في أبوظبي وفي دبي وفي الشارقة وغيرها، حيث كان ذلك التطور الكبير في حركة المجتمع يجد مقابلاً له من تطور للحراك الفني التشكيلي الذي يرصد ويلتقط، بل ولا يكتفي بذلك الفعل، بل يحشد العمل الفني بالرؤى والموقف الفكري الخاص بالفنان، لذلك نجحت تلك الأعمال واللوحات في تجسيد صورة الوطن.

وتعمق الفعل الإبداعي مع ظهور أجيال من الفنانين المسلحين بالعلم والمعرفة من خريجي الكليات والجامعات المتخصصة في الفن التشكيلي، والتي صارت قبلة للكثير من الشباب، فكان التعبير عن الوطن هدفاً رئيسياً لهؤلاء الفنانين، وكذلك كان عيد الاتحاد مناسبة لممارسات فنية وإبداعية في مختلف المعارض التي تتنافس على تقديم الوطن ورموزه وقادته، وما صدر عنهم من أقوال ومبادرات وحِكم ومأثورات وطنية خالدة، لا سيما أقوال مؤسس الدولة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وفي أقوال الحكام وأشعارهم ومقولاتهم، وكذلك كان عيد الاتحاد مناسبة للفنانين للعودة إلى الجذور والتعبير عن الكثير من المشهديات التي كانت سائدة في الماضي، وكذلك التعبير عن معاني الفداء والشهادة في سبيل الأوطان، ونرى ذلك بصورة أكبر في يوم الشهيد، وهي المناسبة العظيمة التي ترجم فيها الفنانون الإماراتيون مشاعرهم تجاه قيم الشهادة والاستبسال من أجل الوطن.

تجارب

في حضرة الوطن، لابد من سياحة في أعمال عدد من الفنانين الإماراتيين من جيل الرواد، والذين أحدثوا كذلك فتوحات في الفن التشكيلي الإماراتي عبر لوحات وأعمال حملت قيم الأصالة والمعاصرة معاً، في سياق التعبير عن الوطن والبيئة الإماراتية ومفرداتها الثرية التي تعزز من قيم الهوية والانتماء، فالفنان عبيد سرور، صاحب الواقعية التعبيرية، هو واحد من الذين عكست أعمالهم صورة الوطن، حيث كان من الذين قاموا بتوظيف البيئة التراثية في الدولة، والمعمار الإماراتي القديم بما فيه من حصون، وأقواس، واهتم بصورة خاصة بالتفاصيل الاجتماعية في البيئة الإماراتية، ورسم المشاهد التي ترسخ في الذاكرة، فكانت أعماله بمثابة فضاءات جمالية محتشدة بحب الوطن، وذاكرة تحيلنا إلى الحياة الاجتماعية القديمة، وعلى ذلك المنوال، وبرؤية جمالية وفكرية خاصة، جسد د. محمد يوسف الوطن عبر العديد من المنحوتات التراثية والأعمال الفنية، حيث كان يستخدم سعف النخيل في معظم أعماله، مع توظيف المواد الطبيعية والبيئية المختلفة، فهو يؤمن بالتلقائية في الفن والبساطة، ومفهوم كسر الحواجز، وكثير من منحوتاته أنجزها من جذوع الأشجار والأوراق والأغصان والحبال، ومخلفات البيئة الإماراتية، وهذا الفهم الفني عند يوسف ينطلق من إيمانه بأهمية التراث، كمفردة وطنية يمكن للفنان المبدع أن يستنبط أبعادها وقيمها الجمالية والفنية الإنسانية، ونرى ذلك متجسداً في أعمال ليوسف مثل «في المرأة والنخلة»، و«نساء ذاهبات إلى العرس»، ومنحوتة «البحر والصحراء»، وأعمال عن شهداء الوطن.

قصص وحكايات

وتحضر الصور الوطنية المتعددة ف ي أعمال ولوحات عبد القادر الريس، صاحب التقنية الاستثنائية في الرسم، والذي تعمق في البيئة المحلية الإماراتية، حيث نرى في أعماله الأبواب والنوافذ والبراجيل والسفن الخشبية وعناصر العمارة التقليدية بخطوطها ومربعاتها الهندسية، وفي أعماله ثمة ذاكرة مكانية وتفاصيل للوطن، وكذلك أنجز الريس أعمالاً يحضر فيها شهداء الوطن، يخلد خلالها تضحياتهم في لوحات يغلب عليها اللون الأصفر الذي يعكس مشاعر الحزن والفقد، وذلك أيضاً ما نلاحظه في أعمال د. نجاة مكي، والتي اتجهت في مجمل أعمالها نحو تجسيد ثيمات مختلفة من التراث الإماراتي، وتشكيلات إبداعية استوحتها من قصص وحكايات الجدات، وهي كذلك عاشقة لتفاصيل البيئة، والمكان يكاد يكون بطلاً في كل أعمالها، حيث إنها من الفنانات القلائل اللواتي يعتبرن البيئة مستودعا ثرياً يلهم بكثير من الموضوعات الفنية، وفي هذا الاتجاه يبرز الفنان عبد الرحيم سالم، الذي قدم اشتغالات فنية استندت إلى التراث والأسطورة والمكان، حيث فاتنته وملهمته «مهيرة»، التي يرصد من خلالها التحولات في الزمان والمكان، وكذلك قدم الفنان إبراهيم العوضي، العديد من اللوحات التي استلهمت حياة البحارة والغواصين، وأعمالاً يمزج فيها بين التراث والتاريخ، مع اهتمامه بالتفاصيل المعمارية التراثية والمحلية، وهنالك أيضاً الفنان الرائد محمد القصاب، كواحد من أبرز الذين جسدوا الوطن في أعمالهم، حيث طرح الكثير من اللوحات التي تزهر فيها تفاصيل البيئة المحلية، وثيمة البحر على وجه الخصوص.

وبصورة عامة، فقد عمل الفنانون الإماراتيون في صناعة لوحة للوطن عامرة بالألوان والخطوط والتفصيل الجمالية التي يحضر فيها المكان ومفرداته، حيث البيوت والفرجان، وكذلك والموروث وجمالياته، حيث المناسبات الاجتماعية المختلفة في الماضي الذي يعبق بروائح البحر والصحراء، وكذلك الممارسات الفنية الجديدة التي عبّرت عن الدولة في تطورها وازدهارها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/22vstux9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"