نحو ثورة خضراء

الشعبوية اليسارية وقوة التأثيرات
22:57 مساء
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 8 دقائق
ساندرز بين أنصاره
جيريمي كوربن

عن المؤلف

الصورة
1
تشانتال موف
تشانتال موف منظِّرة سياسية بلجيكية، كانت تُدرِّس سابقاً في جامعة ويستمنستر. لها العديد من المؤلفات في النظريات السياسية

فرضت جائحة «كورونا» أزمات اقتصادية واجتماعية وبيئية على العديد من الحكومات والحركات السياسية من اليمين واليسار. يناقش هذا الكتاب الوضع اليساري الشعبوي، وكيفية التعامل مع الوضع الراهن، لتعزيز ديمقراطية حقيقية، تركز على تأمين الأمن والحماية والعدالة الاجتماعية للكثيرين، وليس القّلة فحسب.

تراجعت في السنوات الأخيرة، الوعود الشعبوية اليسارية، كما رأينا في هزائم جيريمي كوربن وبيرني ساندرز وجان لوك ميلنشون. إضافة إلى ذلك، أدى وباء «كورونا» إلى ظهور حاجة قوية إلى تأمين الحماية، وخلق أرضية مواتية لأشكال السياسة الاستبدادية. يمثل هذا الوضع الجديد تحدياً لليسار، لكن كيف يمكن له أن يتعامل مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي خلّفها الوباء؟

ترى تشانتال موف في هذا الكتاب الصادر عن دار فيرسو للنشر خلال 2022، أنه على اليسار، ألا يقلل من أهمية تأثيرات التعبئة الجماهيرية عند تطوير استراتيجية للتغيير السياسي في حقبة ما بعد الجائحة. تقترح موف إنشاء تحالف كبير من الحركات تحت شعار «ثورة ديمقراطية خضراء»، وهذا في رأيها يستلزم حماية المجتمع وظروفه المادية بطريقة تمكّن الناس، بدلاً من جعلهم يتراجعون إلى قومية دفاعية أو قبول سلبي للحلول التكنولوجية؛ إذ تجد أن هذا يشكّل حماية للكثيرين، وليس للقلة، ويوفر العدالة الاجتماعية، ويعزز التضامن أيضاً.

تعتمد المؤلفة في هذا العمل على نهج الهيمنة الخطابية الموضحة في استراتيجية الهيمنة والاشتراكية، وعلى تحليل إرنستو لاكلاو للشعبوية في عمله «عن المنطق الشعبوي»؛ حيث تعاين الوضع في أوروبا الغربية في السنوات التي أعقبت أزمة عام 2008، حينما كانت تعبيراً عن أشكال متنوعة من المقاومة للتغيرات السياسية والاقتصادية الناتجة عن ثلاثين عاماً من الهيمنة النيوليبرالية. وقد أدت هذه التحولات إلى وضع يُشار إليه باسم «ما بعد الديمقراطية»، للإشارة إلى تآكل ركيزتي المثالية الديمقراطية: المساواة والسيادة الشعبية.

تقول المؤلفة عن ذلك: «في الساحة السياسية، يتميز هذا التطور بما أطلقتُ عليه «ما بعد السياسة». أعني بهذا المصطلح الإجماع الذي نشأ بين أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط على فكرة أنه لا يوجد بديل للعولمة النيوليبرالية. تحت ذريعة «التحديث» الذي فرضته العولمة، قبلت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية إملاءات الرأسمالية المالية والقيود التي فرضتها على تدخلات الدولة في مجال سياسات إعادة التوزيع. أصبحت السياسة مجرد مسألة تقنية لإدارة النظام القائم، وهو عمل رئيسي مخصص للخبراء. لم تعد الانتخابات تتيح أي فرصة لاتخاذ قرار بشأن بدائل حقيقية من خلال الأحزاب التقليدية ل«الحكومة». الشيء الوحيد الذي يسمح به «ما بعد السياسة» هو تداول السلطة بين حزبين من أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط. وهكذا، تم تقويض سلطة الشعب، التي تعدّ إحدى الركائز الأساسية للنماذج الديمقراطية المثالية: فقد أُعلن أن السيادة الشعبية قد عفا عليها الزمن، وتم تقليص الديمقراطية إلى مكونها الليبرالي. حدثت هذه التغييرات على المستوى السياسي في سياق نمط جديد من التنظيم الرأسمالي، يحتل فيه رأس المال المالي مكانة مركزية. لقد أدت أمولة الاقتصاد إلى توسع كبير في القطاع المالي على حساب الاقتصاد المنتج. ومع آثار سياسات التقشف التي فُرضت بعد أزمة عام 2008، شهدنا زيادة هائلة في عدم المساواة في الدول الأوروبية، لا سيما في الجنوب. لم يعد هذا التفاوت يؤثر في الطبقة العاملة فحسب؛ بل يؤثر أيضاً في جزء كبير من الطبقات الوسطى التي دخلت في عملية فقر وهشاشة».

وتضيف: «أسهم هذا في انهيار العمود الآخر للمثل الديمقراطية - الدفاع عن المساواة - والذي تم استبعاده أيضاً من الخطاب الليبرالي الديمقراطي الرئيسي. كانت نتيجة الهيمنة النيوليبرالية هي إنشاء وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي لنظام حكم الأقلية. كل أولئك الذين يعارضون هذا «الإجماع في الوسط» ما بعد الديمقراطية يتم تقديمهم على أنهم متطرفون ويتم استنكارهم على أنهم شعبويون».

ما بعد الديمقراطية

يركز الكتاب في أحد نقاشاته المركزية أنه في سياق ما بعد الديمقراطية يمكن فهم «اللحظة الشعبوية»، وتعلق المؤلفة على ذلك قائلة: «لفهم ديناميكيات اللحظة الشعبوية، من الضروري تبني نهج معادٍ للأصولية يتم بموجبه تصور «الشعب» كفئة سياسية، وليس فئة اجتماعية، أو مرجعية تجريبية. يمكن بناء المواجهة على شكل «الناس مقابل المؤسسة الحاكمة» وهي سمة من سمات الاستراتيجية الشعبوية بطرق مختلفة للغاية. في العديد من البلدان الأوروبية، استحوذت الأحزاب الشعبوية اليمينية على المطالب المناهضة للمؤسسة الحاكمة، والتي تعبر بطريقة استبدادية عن رفض ما بعد الديمقراطية. هذه الحركات تبني «شعباً» من خلال خطاب إثنو-قومي حصري يستبعد المهاجرين الذين يعدون تهديداً للهوية الوطنية والازدهار الوطني. إنهم يدافعون عن ديمقراطية تهدف حصرياً إلى الدفاع عن مصالح أولئك الذين يعدون (مواطنين حقيقيين)».

وترى المؤلفة أنه «باسم استعادة الديمقراطية، يرغبون في الحقيقة بتقييد الديمقراطية»، وتقول أيضاً: «أرى أنه من أجل إعاقة نجاح تلك الحركات الاستبدادية، من الضروري بناء الحدود السياسية بطريقة تعمق الديمقراطية بدلاً من تقييدها. وهذا يعني نشر استراتيجية يسارية شعبوية هدفها تكوين «شعب» يتم بناؤه من خلال «سلسلة تكافؤ» بين مجموعة متنوعة من النضالات الديمقراطية حول قضايا تتعلق بالاستغلال والسيطرة والتمييز. تعني هذه الاستراتيجية إعادة تأكيد أهمية «السؤال الاجتماعي»، مع الأخذ في الاعتبار التشرذم المتزايد وتنوع «العمال»، ولكن أيضاً مراعاة خصوصية المطالب الديمقراطية المختلفة حول قضايا النسوية، ومناهضة العنصرية، والإشكاليات المرتبطة بالتحولات الجندرية».

تشير المؤلفة إلى أن «عمليات الإغلاق المتكررة خلال الوباء وأشكال السيطرة التي نفذتها العديد من الحكومات الليبرالية الجديدة، أدت إلى وقف التظاهرات العامة ضد التقشف. وباسم منع انتشار الفيروس التاجي، تم اتخاذ تدابير سلطوية بشكل متزايد. بالتالي لم يكن الوقت مناسباً لتنظيم المقاومة الشعبية. ومع ذلك، كان من الخطأ الادعاء بأن هذا الوضع الجديد يتطلب استراتيجية مختلفة تماماً لليسار. المهم هو التعرف إلى خصوصية الوضع الراهن الذي يتميز بتحدّ مزدوج: كيفية التعامل مع العواقب الاجتماعية والاقتصادية للوباء، وكيفية التعامل مع حالة الطوارئ المناخية الناجمة عن آثار الاحتباس الحراري».

إن الاحتباس الحراري ليس سوى أحد الأبعاد العديدة لأزمة المناخ، لكنه بلا شك هو الأكثر وضوحاً، وتأثيره محسوس بشكل مباشر من جانب عدد كبير من الناس. تقول المؤلفة عن ذلك: «لقد كان العلماء ينبهوننا إلى العواقب الوخيمة لهذه الظاهرة لسنوات عديدة، لكن لم ينصت إليهم أحد. بفضل حشد الشباب، اكتسب المناخ مكانة بارزة في الأجندة السياسية. عند تصور الرد على الهجوم النيوليبرالي، لا يمكن الفصل بين الأزمتين الاجتماعية والبيئية، على الرغم من اختلافهما. ومع ذلك، لفهم طبيعة الصراعات التي تم إدراجها فيها، من المفيد تحليلها بشكل منفصل».

انتكاسة الديمقراطية

تعاين الكاتبة عواقب الإجراءات المختلفة التي نفذتها الحكومات النيوليبرالية للتعامل مع العواقب الاجتماعية والاقتصادية للوباء، وتتساءل: «هل تشير الحكومات إلى تحرك في اتجاه أفق «ما بعد الليبرالية الجديدة»، كما يقترح البعض، أم أننا نشهد بالأحرى ظهور نسخة جديدة من النيوليبرالية أكثر ملاءمة للمأزق الحالي؟، وتقول: «تميزت استجابة معظم الحكومات للأزمة الصحية للوباء بمستوى عالٍ من تدخل الدولة. لقد حالت عمليات ضخ الأموال الضخمة من البنوك المركزية دون حدوث العديد من حالات فشل الأعمال التجارية، وسمحت للصناعات بالبقاء على قيد الحياة من دون الحاجة إلى تسريح العمال. وبينما توقف جزء مهم من النشاط الاقتصادي بشكل مفاجئ، تم تجنب الانهيار الاقتصادي الكارثي؛ بفضل تنفيذ أشكال متنوعة من الإعانات وخطط الإجازة. ربما أدى المستوى غير المتوقع من تدخل الدولة إلى الاعتقاد بأنه يعني إجراء قطيعة مع المبادئ النيوليبرالية. هل هذه هي الحال فعلاً؟ ولدت النيوليبرالية للدفاع عن المجتمع ضد «الجماعية» التي روجت لها النظريات الماركسية والكينزية، ومنذ نشأتها مع جمعية مونت بيليرين في عام 1947، كان عدوها المعلن هو الدولة التدخلية التي قدمها فريدريك هايك على أنها تضع المجتمعات في الطريق إلى القنانة (حالة من الرق أو العبودية المعدلة). ظل هذا النهج هامشياً خلال سنوات دولة الرفاه بعد الحرب. وبعد اختبارها في تشيلي في ظل دكتاتورية بينوشيه، تمكنت النيوليبرالية من فرض مفهومها لاقتصاد السوق الحر والاضطلاع بتفكيك دولة الرفاه عندما تولت مارغريت تاتشر السلطة عام 1979 ورونالد ريغان عام 1981».

تقول الكاتبة: «نواجه اليوم أزمة مزدوجة تتمثل في حالة الطوارئ المناخية والعواقب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة الصحية. ومما لا شك فيه أن ظهور فيروس «كورونا» وانتشاره في جميع أنحاء الكوكب قد سهّله تدمير البيئة والدمار الذي تسارع بشكل مكثّف نتيجة الرأسمالية المالية. لقد أدت عقود من سياسات التقشف النيوليبرالية إلى تدمير الخدمات العامة في العديد من البلدان التي وجدت نفسها غير مستعدة لمواجهة الوباء. لهذه الأسباب، يثبت فيروس «كورونا» صحة أطروحات المعسكر التقدمي، ويتوقع الكثيرون أنه يشير إلى نهاية هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية. وهم يعتقدون أن «كوفيد-19» أدى إلى تفاقم عدم المساواة والأزمات الحالية، وبمجرد عودة الحياة إلى طبيعتها، ستستأنف النضالات الشعبية بقوة متجددة. ربما هم على حق، لكنني أخشى أنه بدلاً من تكثيف أزمة شرعية الليبرالية الجديدة، قد يمنح الوباء فرصة جديدة لها للحياة. ما يقودني إلى تصور مثل هذا الاحتمال هو التخمين بأن الوباء قد ولّد آثاراً مرتبطة بالحاجة القوية إلى الأمن والمطالبة بالحماية».

إشكالية الأمن والحماية

تطرح المؤلفة هذه الفرضية من قراءة كارل بولاني في كتابه «التحول الكبير» الذي كشف فيه كيف أن المجتمع في الثلاثينات تعرض للخطر بسبب الاضطراب الناجم عن التقدم في التسليع، ويتفاعل مع حركة مضادة أعادت تكييف الاقتصاد مع الاحتياجات الاجتماعية. كما لاحظ بولاني أن مقاومة هذا التفكك لم تتخذ بالضرورة شكلاً ديمقراطياً. تقول المؤلفة عن ذلك: «في الواقع، لم يؤد ذلك إلى صفقة روزفلت الجديدة فحسب؛ بل أدى أيضاً إلى الفاشية والستالينية. اكتسبت فكرة بولاني عن الحركة المضادة انتشاراً في السنوات الأخيرة لتوضيح النمو العالمي للحركات الاجتماعية المعاصرة التي تقاوم النيوليبرالية. أجد هذا البعد من عمله مشرقاً، لكنني أريد أن أشير إلى عنصر آخر أجده وثيق الصلة بشكل خاص بالظروف الحالية: أهمية عنصر الحماية الذاتية. يوضح بولاني أنه عندما تواجه المجتمعات اضطرابات خطرة في أنماط حياتها، تصبح الحاجة إلى الحماية المطلب المركزي، ومن المرجح أن يتبع الناس من يشعرون أنه بإمكانهم تقديمها بشكل أفضل».

تضيف الكاتبة على ما سبق: «نجد أنفسنا في موقف مشابه. تختلف الظروف بالطبع، لكن لا شك في أن الوباء كان له تأثير عاطفي عميق في قطاعات كبيرة من السكان. في حين أن أفقر الأشخاص والذين يعملون في وظائف محفوفة بالمخاطر هم بالتأكيد الأكثر تضرراً، فقد أدى الاضطراب الذي أحدثه الوباء إلى ظهور شعور عام بين العديد من القطاعات المختلفة بالضعف الذي يعبر عن الرغبة في الأمن والحماية. يمكن معالجة هذه الرغبة بطرق مختلفة، تدريجياً أو تراجعياً. يمكن أن يفيد الشعبويين اليمينيين إذا كانوا قادرين على إقناع الناس بأن الأمن يتطلب تبني وجهة نظر السيادة؛ من حيث القومية الحصرية. ومن الواضح أنهم منشغلون في الترويج لمثل هذا الرأي. وبدعوى أنهم صوت الشعب، يتهمون النخب النيوليبرالية وسياساتهم في العولمة بالمسؤولية عن الأزمة، لأنهم يتخلون عن السيادة الوطنية، ويدافعون عن التجارة الحرة».

وترى البروفيسورة تشانتال موف أن الخطاب اليميني المناهض للمؤسسة الحاكمة، والدعوة لاستعادة السيادة، ورفض حكم الشركات العابرة للحدود يلقى استقبالاً جيداً من القطاعات الشعبية. من المؤكد أنها في بعض البلدان تمثل خطراً على الديمقراطية، فهؤلاء يرون رقمنة العديد من الأنشطة في مجموعة متنوعة من المجالات - العمل والتعليم والصحة وغيرها - كوسيلة لخفض تكاليف الإنتاج، وهم مقتنعون بأنه سيكون لها تأثير عميق في ديناميات الرأسمالية، معلنين عن ذلك بداية عهد جديد. كما يزعمون أن تطوير «الرأسمالية الخضراء» وتعزيز الهندسة الجيولوجية يمثلان الحل لمشكلة الاحتباس الحراري، وهم حريصون على الاستفادة من مجال الفرص التي توفرها حالة الطوارئ المناخية. يجب أن ندرك أن السعي وراء مثل هذه المشاريع يمكن أن يمنح الليبرالية الجديدة إمكانية جديدة ل «شراء الوقت». من المؤكد أن التناقضات بين مطالب السوق ومطالب المواطنين ستبقى، ولن يختفي التناقض بين الرأسمالية والديمقراطية، لكن هذا الشكل الجديد لما بعد السياسة الرقمية سيمثل انتكاسة خطرة لقوى الديمقراطية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم
https://tinyurl.com/2xt7sxbs

كتب مشابهة

1
زاندر دنلاب
1
داون سي ميرفي
1
مايكل كريبون
بوتين وشي جين بينغ
ريتشارد ساكوا

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

1
ميريام لانج وماري ماناهان وبرينو برينجل
جنود في كشمير
فرحان م. تشاك
لاجئون سوريون في تركيا
لميس علمي عبد العاطي
1
ديزيريه ليم
1
جيمي دريبر
1
جورج ج. فيث
1
باسكال بيانشيني وندونجو سامبا سيلا وليو زيليج
1
هاين دي هاس