عادي

عاشق التاريخ بالبحث والاستقصاء

00:18 صباحا
قراءة 13 دقيقة
  • حاكم الشارقة قرأ عن تاريخ المنطقة ما لا يقل عن 20 ألف وثيقة
  • تفسيرات منطقية للأحداث تسعى إلى كشف الزيف وترسيخ الحقائق

 الشارقة: يوسف أبولوز

يكتب صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، التاريخ ويصنعه في الوقت نفسه، وإن لم تكن صناعته للتاريخ مباشرة، فإن سموه شريك في هذه الصناعة التي هي ثقافة وشهادة ورسالة وموقف في آن واحد، وسوف نلاحظ في هذه المادة التاريخية التي بين أيدينا الآن أن سموه وقف على أحداث ووقائع سياسية ودبلوماسية واجتماعية وثقافية ذات صلة مباشرة بالمنطقة، منذ كان شاباً.

دائماً، تزيده الأيام والتجارب والأحداث حكمة وبصيرة وحسن تدبير، قيادي لكل صغيرة وكبيرة في حالة الحاكم وفي حالة الكاتب وفي حالة الإنسان الأب المُصغي والقارئ والرّائي على مدار عمله اليومي الذي لا تغيب عنه أبداً طبيعة الباحث المؤرّخ الموثّق والمؤرشف والفاحص للمعلومة وللصورة وللوثيقة وللخريطة بأكثر من مكبّر، ومن أكثر من زاوية، وأكثر من قياس.

مصادر يعتمد عليها

هذه هي طبيعة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي البحثية التاريخية. لا بد لسموّه من مصادر وسجلّات يعتمد عليها في منهجه التوثيقي ليقول الحقيقة وهو مطمئن إلى قارئه العادي وقارئه المتخصص، لذلك نرى سموه يشير في خاتمة كتابه «صراع القوى والتجارة في الخليج» إلى منهجه في البحث والاستقصاء بقوله إنه أجرى هذه الدراسة المطوّلة الموسعة التي تضمنها الكتاب «.. على أساس من الاعتماد الكلّي تقريباً على مصادر أولية موثّقة من سجلات الشركات الأوروبية، التي كانت محفوظة في الأرشيف والمكتبات..»، ونشير هنا إلى أن هذه المادة التاريخية «صراع القوى والتجارة في الخليج» تمتد من العام 1620 إلى العام 1820، وهي كما يشير سموّه فترة فِتَن وصراعات على السلطة في المنطقة، وقد أوردت هذه الملاحظة هنا، لأشير إلى حجم الصعوبة القصوى في الحصول على وثائق تتضمن حقائق محدّدة حول الصراع على السلطة، ومع ذلك، ورغم هذه الصعوبة التي تواكب عملية البحث عن الحقيقة إلى درجة التعقيد، أقول على الرغم من كل ذلك، يصرّ سموه على الوصول إلى وثيقة معتمدة لا تشوبها شكوك علمية أو معلوماتية.

وضوح

يعتمد صاحب السمو حاكم الشارقة في منهجه البحثي أيضاً على تصحيح الروايات المغلوطة التي ترد في مؤلفات تاريخية أو في وثائق أو في سجلات أرشيفية، وسموه يقول بكل وضوح في مقدمته لكتابه «صراع القوى والتجارة في الخليج» إن الهدف الأساسي من هذا الكتاب هو تقديم تفسير منطقي أو عقلاني للأحداث التي وقعت في المنطقة من العام 1620 وحتى 1820، ثم تصحيح الروايات المغلوطة في الكتاب المُسَمّى «دليل الخليج الفارسي/عمان/ ووسط الجزيرة» الذي ألَّفَه جون لوريمر بين عامي 1908 و1914 ميلادية.

يقوم كتاب «القواسم والعدوان البريطاني 1797-1820»، على عشرات التقارير «المصفّاة» بالطبع من مئات وربما آلاف التقارير الموقّعة بإمضاءات العديد من رجال السياسة والعسكرية البحرية والرتب العالية والقادة المدنيين والعسكريين، وإلى جوار هذه التقارير المرهقة، بالفعل، للباحث الفاحص المدقق في الشخصيات وفي النصوص، وهو ما يفعله صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، أقول إلى جانب هذه المنهجية البحثية تكشف هذه التقارير عن النفاق البريطاني والكذب المكشوف في ادعاءات القرصنة وإلصاقها بالقواسم، وهي قضية انشغل بها سموه في أكثر من مؤلف، وأكثر من موقف بحثي مُعَزّز مرة ثانية بالتقارير والوثائق والسجلات التي هي دائماً مادة التاريخ الصريحة التي يشتغل عليها سموّه.. اقرأ ما جاء في سياقات هذا البحث المدعّم بعشرات بل مئات التقارير التي كتبها الوكلاء البريطانيون ومندوبوهم.. «.. إن صانعي السياسة البريطانية في الهند كانوا مصممين على تحطيم قوّة القواسم البحرية في الخليج. كان واضحاً أن الحرب حرب تجارة، ومع ذلك استطاع البريطانيون أن يقنعوا أنفسهم أنها حرب شنّت لتخليص الخليج من القرصنة، وبسبب أو بلا سبب لم يكن لديهم شك في أن القراصنة هم القواسم، واتهموهم بكل فعل شرير أمكن وقوعه في البحار من حولهم..».

بالأدلة والتقارير

بالأدلة، وفحص التقارير وبالمراجعة العلمية للوثائق أثبت سموه أن الاتهامات البريطانية باطلة «.. ومع ذلك ظلّت تلك الأكاذيب تتردد في تقارير الوكلاء البريطانيين ومندوبيهم الهنود على السواء..».

إثبات حقيقة أن القواسم كانوا أبرياء تماماً من الاتهامات التلفيقية هي الثيمة المشتركة لقلم سموه في العديد من مؤلفاته. وتظل الحقيقة هي الاسم العلني للتاريخ.. أن كل الأعمال التي نسبها البريطانيون للقواسم على أنها قرصنة أثبت التاريخ أنها كذبة كبرى، ومن الروايات الكاذبة دائماً ما رواه «لوريمر»، وإذا كانت هناك من قرصنة فإنها في حقيقة الأمر قرصنة بريطانية، لا بل يقول سموه في هذا الكتاب إن القواسم كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد القرصنة البريطانية، ويقول سموه في مكان آخر.. «.. لم يكن كل القراصنة والمهاجمين عرباً ولم يكن كل العرب قواسم. كان هناك قراصنة هنود، وكان هناك مهاجمون للسفن فرنسيون، ولسبب غريب لم يُسَمَّوا أبداً قراصنة..».

لم يكتف صاحب السمو حاكم الشارقة بوضع بحوث ودراسات ومؤلفات تاريخية ميدانية تكشف كذب الرواية البريطانية حول القرصنة، بل، كان وما زال يشير في أحاديثه وفي مناسبات معيّنة إلى براءة القواسم من رواية القرصنة.

تشويه

في الخامس من إبريل عام 1983 استقبل سموه وفداً من الباحثين والأساتذة في الجامعات من جمهورية ألمانيا الاتحادية، ويومها استعرض سموه مع الوفد تاريخ الإمارات في الماضي، وأوضح سموه آنذاك كيف كان القواسم يقاومون الهجمات البريطانية.. «.. حتى تمكّن البريطانيون من هزيمتهم، وأملوا عليهم الاتفاقيات التي تثبت وجودهم على أرض القواسم، ولم يكتفوا بذلك، بل شوّهوا ذلك النضال، ووصفوه بالقرصنة ليبرروا لأنفسهم احتلال البلاد..» صفحة 170 حديث الذاكرة - الجزء الثاني.

تاريخ المنطقة ودور القواسم السياسي، والبحري، والاقتصادي والثقافي هي معاً العمل اليومي المنظم لسموّه من حيث الوقت أو من حيث المادة المكتوبة والمقروءة التي يعمل عليها بدقة - كتابية عالية، يتأكد لنا هذا السياق العملي تماماً من خلال حديث إذاعي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية مع سموه في العام 1985، قال مقدّم البرنامج الإذاعي إن سموه قرأ في إطار بحوثه حول تاريخ المنطقة ودور القواسم ما لا يقل عن عشرين ألف صفحة من الوثائق، وأشار إلى أن أجداده القواسم كانوا تجاراً كباراً يعملون في البحر ويديرون ما لا يقل عن 870 سفينة في زمن الحرب النابليونية، وكانوا في صراع دائم مع شركة الهند الشرقية التي يديرها البريطانيون، والتي سعت للسيطرة على طرق التجارة بين بريطانيا والهند، وبتأثير هذا الصراع، عمل البريطانيون على ربط اسم القواسم بأعمال القرصنة. صفحة 89، أحاديث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الجزء الأول.

جوهر

كان ذلك قبل أكثر من 35 عاماً قرأ خلالها أيضاً سموه عشرات آلاف الصفحات من الوثائق الجديدة، ولكن من المهم جداً هنا أن نعرف الجوهر البحثي لسموه.. هذا الجوهر الذي يؤكد الحقيقة التاريخية التي يتوصل إليها صاحب السمو حاكم الشارقة. هيئة الإذاعة البريطانية تذكر أن حاكم الشارقة درس السجلات القديمة الموجودة في مومباي والخاصة بشركة الهند الشرقية، كما درس سجلات مكتب الهند البريطاني في لندن، وكذلك النصوص الأصلية لمعاهدات القرن التاسع عشر التي عثر عليها في البرتغال.

ونسب البرنامج الإذاعي إلى صاحب السمو حاكم الشارقة قوله إنه يتمنى لو أنه كان حاكم عائلة القواسم في أيام نابليون، لكان سافر إلى لندن وأبلغ الحكومة البريطانية في ذلك الزمان أن سياستها قائمة على مجموعة أكاذيب. صفحة 89، أحاديث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الجزء الأول.

لم يكن القواسم قراصنة. كانوا سادة تجارة وسادة بحر، وفي كتابه «تحت راية الاحتلال صفحة 73 وصفحة 74 يؤكد سموه هذه الحقيقة.. يقول: «.. قام القواسم ببناء أسطول تجاري ضخم جاب البحار، ليس لنقل التجارة فقط، ولكن للمتاجرة كذلك. كان أسطول القواسم التجاري سابقاً، يُحَوَّل إلى أسطول حربي بعد تزويده بالمدافع وتغطية جوانب سفنه بشرائح من جذوع النخيل لتعمل على امتصاص ضربات قذائف مدافع الأعداء..».

لا يؤكد صاحب السمو الغرض التجاري ثم الحربي من أسطول القواسم فقط، بل يسجل سموه في كتابه «تحت راية الاحتلال» عدد السفن التي كان يتكوّن منها ذلك الأسطول، ويذكر أيضاً أسماء أصحاب تلك السفن وهم من رأس الخيمة، والرمس، والجزيرة الحمراء، والحمرية، والشارقة، والحيرة، والفشت، وخورفكان، وكان ذلك في العام 1830، «لكي تقف على أسماء الأشخاص ملّاك تلك السفن راجع الصفحات 74، 75 من كتاب: «تحت راية الاحتلال».

علاقة متوترة

من مظاهر التوتر الذي ساد العلاقة بين الإنجليز والشارقة في الأربعينات من القرن العشرين ما قاله سموه في كتابه «سيرة مدينة»: «كانت العلاقة بين الإنجليز وحكومة الشارقة ممثلة في الشيخ سلطان بن صقر القاسمي طوال سنة 1947 ميلادية سيئة، وقد استعملت السلطات البريطانية جميع الوسائل لجعل الشيخ سلطان بن صقر القاسمي يقوم بالتوقيع على تجديد الاتفاقية الخاصة بمحطة الشارقة للطيران المدني، ولما عَيّت بريطانيا من أمرها، أخذت تكيل الاتهامات، والتهديد والوعيد.. صفحة 372».. وهي نفسها مفردات الرواية البريطانية المتعلقة بالقرصنة، لكن هنا يصل التوتر إلى درجة اتخاذ إجراءات ضد الشارقة، ففي العام 1948 رفض الشقيقان الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، والشيخ محمد بن صقر القاسمي قبول اتفاقية الطيران المدني في الشارقة.. «.. وفي يوم الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام 1948 صدرت التعليمات من المقيم السياسي في الخليج إلى الوكيل السياسي في البحرين السيد «بيلي» أن يبدأ بالعقوبة المفروضة على الشارقة وأهلها..».

حكاية الإنجليز

غير أن المهم أيضاً في سياق التسلسل في حكاية الإنجليز بالمنطقة، بدءاً من كذبة القرصنة وانتهاء بالعقوبات على الشارقة، أن سموه تمكن من التوصل إلى وثائق بريطانية تفيد أن الحكومة البريطانية شاركت في ترتيب إجراءات هجرة اليهود إلى فلسطين، بحيث تكون الشارقة المعبر الرئيسي لهذه الهجرة.. يقول صاحب السمو في كتابه «سيرة مدينة»: «.. بعد أن احتل اليهود أرض فلسطين، بدأوا بتهجير اليهود من كل بقاع العالم، وكانت المعلومات، لدى جميع العرب، أن الهجرة كانت عن طريق البواخر من أوروبا والطيران من بغداد عبر الحبّانية على يد الإنجليز المتسلطين على العراق، ولا يمكن أن يتخيّل أي عربي أن تكون الشارقة المعبر الرئيسي لنقل اليهود من الهند وشرق آسيا وروسيا وألمانيا وبولندا، حتى تَمكنْتُ من اكتشاف ذلك من خلال الوثائق البريطانية التي تدين الحكومة البريطانية، حيث تم الاعتراف بالمشاركة في ترتيب تلك الهجرة عن طريق مطار الشارقة من قبل الضابط السياسي في الوكالة البريطانية في الشارقة باتريك ستوبارت..».

.. وكالعادة يثبّت سموه المعلومة بالوثيقة والتاريخ والنصّ والأختام، والوثائق تؤكدها رسالة سرية للوكيل السياسي في البحرين بيلي مؤرّخة في الثامن من شهر مارس عام 1950. راجع كتاب «سيرة مدينة».

إن الأساس لمن يقرأ الخطاب التاريخي لصاحب السمو حاكم الشارقة هو أن القواسم أهل تجارة، وسيكون الإنجليز منافساً خطيراً لهم في المنطقة بفرضهم جوازات مرور للسفن التي تتاجر في الخليج، ولذلك، يقول سموه في كتابه: «القواسم والعدوان البريطاني» إن القواسم كانوا يرون أن التجارة هي مصدر العيش الوحيد تقريباً في بلادهم القاحلة، وكان للتجارة مع الموانئ الهندية على وجه الخصوص أهمية عظمى لدى القواسم، فمنها يحصلون على أهم نوعين من البضاعة لهم، وهما الطعام لأنفسهم، والخشب لسفنهم..»، وقد أوردت هذا الاقتباس حول تجارة القواسم بالذات كي يراجع القارئ أكذوبة القرصنة التي هي محور هذه الدراسات الوثائقية العلمية والميدانية لصاحب السمو حاكم الشارقة.

لقد رأيت أن يتوقف القارئ بإمعان عند رفض القواسم لإقامة محطة الطيران في الشارقة عام 1931، وهي تفصيلة مهمّة يوردها سموه في كتابه «سرد الذات» في الصفحة 55، وينبّهنا إلى تفاصيل أوفى في كتابه «محطة الشارقة الجوية بين الشرق والغرب».. يقول صاحب السمو في «سرد الذات».... «... والدي كان معارضاً لإقامة محطة الطيران بالشارقة في سنة 1931، وكان مطلبه أن تكون محطة الطيران مدنية وليست عسكرية، وكان يقوم بإزالة أي علامات توضع على الأرض لإقامة تلك المحطة، فقرر الإنجليز يومها إبعاده عن الشارقة، لولا قبول الإنجليز بالشروط التي قدّمها والدي بإعطاء خطاب ضمان يحمي استقلال الشارقة وعدم التدخل في شؤونها..».

باحث جغرافي

لم يقرأ صاحب السمو حاكم الشارقة تاريخ المنطقة، وصراعات البحر والتجارة وحروب الوصول إلى السلطة فحسب، بل قرأ أيضاً جغرافية المنطقة، الجغرافية الطبيعية والجغرافية السياسية، بالأسلوب البحثي نفسه، فحص الوثائق والذهاب إليها وجمعها من مكتبات موثوقة ومؤسسات جامعية وبحثية معروفة باحترام المعرفة ورجالها، وسوف يعاني سموه في رحلة بحثه هذه كأي ضمير ثقافي لا يهمّه سوى الحقيقة، وحين قرأت المؤلفات التاريخية بقلم رجل حاكم ومسؤول، رأيت كم حاول البعض حجب المعلومات عن سموه على الرغم من أنهم يعرفون مَنْ هو؟ ويعرفون قامته القيادية والثقافية المحترمة بين جامعات العالم، لكن سموه كان ولايزال يتحمّل تبعات كونه رجل معرفة وعلم وتاريخ وبحوث، ويذهب إلى أبعد ما في ذاته الكاتبة بكل هدوء وجمال داخلي.

واقعة

يروي سموه واقعة حصلت معه بمركز الوثائق في مدينة «ليزبن» البرتغالية ومع مدير المركز وكانا يتحادثان حول ممارسات البرتغاليين في المنطقة، وكان مدير مركز الوثائق يدافع ضمنياً بل مباشرة عن أحد المسؤولين البرتغاليين.. «.. بأن هذا العمل فردي ناتج عن ضابط فرقة أو قائد كتيبة أو جيش، وقال مخاطباً سموه بأن لا يصير موقف ذلك الضابط البرتغالي.. «حكماً عاماً على الأمة»، «.. فَهَمَّ سموه بقراءة رسالة فحواها من الفانسو إلى دوم مانويل الثالث: مولاي، عندما وطئت قدمي أرض مسقط بادرت بهدم ذلك المكان اللعين المُسَمّى المسجد حسب أوامركم».. ويقول سموه إن مدير المركز استشاط غضباً، وأمر بعدم السماح بتقديم أي نوع من الوثائق إلى سمّوه.

ليس هذا هو الموقف الأول الذي يتعرّض فيه صاحب السمو حاكم الشارقة لموقف عصبي يعرقل عمله البحثي في مكتبات ومراكز البحث العالمية، ولكنه مع ذلك كان يتحمّل الغضب والتهور وسوء الفهم، ويمضي إلى مصادر بحوثه بكل هدوء المؤرّخ الباحث عن حقيقة المكان، سواء كانت حقيقة تاريخية أو حقيقة جغرافية.

تاريخ الهامش

صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي رجل كُتب، يقرأ ويطّلع يومياً على أكثر من 300 صفحة، وهو يكتب في التاريخ السياسي، وفي التاريخ الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي للمنطقة، فنمتلئ بثقافته هذه، ونروح نتعلم من التاريخ ونتأمل أيامه وتقلبّاته ورجالاته، لكن ما أود الإشارة إليه هنا أن سرد التاريخ بقلم صاحب السمو حاكم الشارقة على هذا النحو البحثي التخصصي هو في الوقت نفسه سرد لتاريخ التعليم، والكشافة على سبيل المثال لا الحصر وخاصة في كتابه «سرد الذات».

التاريخ ليس سياسياً دائماً، والجغرافيا ليست جيولوجية وسياسية دائماً، في كتابات وبحوث ودراسات صاحب السمو حاكم الشارقة، سيصف لنا مثلاً سموه المدارس الأولى في الشارقة، وهذا شكل من أشكال التاريخ، سيصف لنا أيضاً سينما الإنجليز في مناخ الإبل وهو أيضاً تاريخ، سيصف لنا أول عرض مسرحي في الشارقة. قبائل ومدن الشارقة ورأس الخيمة ومهنهم وأعمالهم هو أيضاً تاريخ اجتماعي لا يغيب عن قلم صاحب السمو حاكم الشارقة، لا بل تاريخ فرجان الشارقة موجود أيضاً في «تحت راية الاحتلال».

أحداث لافتة

تاريخ الشعر في الثلاثينات نعرفه من السيرة المكانية والاجتماعية للشارقة، ظهور الجدري في الشارقة في 1935 هو تاريخ آخر لحياة الناس في النصف الأول من القرن العشرين، ومن ذلك أيضاً ظهور وباء الكوليرا في الشارقة ورأس الخيمة وأم القيوين، ويحدّده سموه بتاريخ معين بدقة. يقول إن الوباء ظهر في سبتمبر عام 1858، «..ففي رأس الخيمة وحدها سقط ألف وثلاثمئة ضحية للوباء، أما في أم القيوين فكان المتوفّون يُلقون في القبور والحفر، ولم يكن هناك سوى الموت والنحيب يملآن الطرقات..».

موقف لا ينسى

صناعة التاريخ، أو المشاركة في صناعته وكتابته وفحص وثائقه ومخطوطاته هي عمل رجال تتألف شخصياتهم من صورة المثقف، وصورة الجريء، وصورة الإنسان الصبور على المعرفة، والأهم من ذلك الصبور على ردود الفعل التي ترقى أحياناً لأن تكون اتهاماً أو شبه اتهام، لكن الرجال الكبار المطمئنون دائماً إلى أنفسهم لأنهم مطمئنون إلى الحقيقة، لا يهمّهم الغضب والانفعال والشطط في الرأي.. أقول ذلك، وإليك هذا الموقف الذي مرّ به صاحب السمو حاكم الشارقة: يروي سموه في «حديث الذاكرة»، الجزء الثاني، أن القنصل الأمريكي في دبي في يناير 1986 اتصل به وطلب منه مقابلة وفد أمريكي كان آنذاك يزور الدولة. المهم من دون تفاصيل (راجع صفحتي 218 و219) التقى سموه الوفد ودار الحديث حول بعض الأمور عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. تحدث سموه بجرأة وشجاعة ووضوح، وكان الوفد الأمريكي يتألف من ثلاثة أشخاص.. يقول سموه: «.. خرج الثلاثة من عندي وهم لا يصدّقون ما سمعوا، ولم يسمعوا ولن يسمعوا، مثل ذلك الكلام إلا من شخص من الاتحاد السوفييتي، غارق في شيوعيته لدرجة معاداة الرأسمالية الأمريكية، وعلى ذلك أجمعوا على رأيهم فيّ..».

يقول سموه في بداية شهر يونيو 1986 قابل صديقاً له بريطانياً فقال له: «.. كنت بالأمس مع صديق أمريكي نائب في الكونجرس الأمريكي، وعندما أخبرته أنني سأقابلك قال لي: لماذا تقيم علاقة مع هذا الشخص (وكان يقصد صاحب السمو)، أكثر من ذلك قال ذلك النائب في الكونجرس عن صاحب السمو: «إنه الأمير الأحمر. شيوعي حتى النخاع». ما يرتديه صاحب السمو حاكم الشارقة هو زيّه الوطني العربي الإماراتي. ثوبه الأبيض الذي لا شائبة تشوبه. كما لا شائبة تشوب مِداده وقلمه وهو يلاحق الحقائق التاريخية ليخلّصها وينقّيها من الزيف والأكاذيب كما يُنقّى القمح الطيب من الزؤان، فلا يبقى في الذاكرة إلا صواب الحقيقة، وما سوى ذلك ما هو إلا قرصنة فكرية برواية ضعيفة.

الجزائر في القلب

في الثاني من يناير عام 1982 زار أحمد بن بيلّا الشارقة، وقد استقبل بحفاوة شعبية بالغة، وقام المواطنون بمظاهرة في خورفكان احتفاء بالرئيس الجزائري.

كانت الجزائر وما زالت حاضرة في ذاكرة وقلب صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وقد زار سموه الجزائر في مارس 1986 بدعوة من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وألقى سموه محاضرة بقصر الثقافة في العاصمة الجزائرية، وممّا قال سموه: «.. هكذا استولى الفرنسيون في الجزائر على الدولة والأرض والتجارة والزراعة والمدن واللغة والثقافة، استولوا على كل شيء إلا الشعب..». «حديث الذاكرة»، الجزء الثاني، صفحة 186. موقع الجزائر بلداً وشعباً وتاريخاً بالنسبة لصاحب السمو حاكم الشارقة يأتي ثقافياً وفكرياً في أفق أوسع وأشمل هو إفريقيا، وسؤال سموه الثقافي دائماً حول كشف الجذور التاريخية للعلاقة بين العرب والأفارقة وعمق التفاعل في ما بينهم، وقد دعا سموه العلماء والمفكرين ومراكز الأبحاث والدراسات إلى هذا الدور الثقافي الإفريقي - العربي في محاضرة ألقاها سموه في افتتاح قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم في فبراير 1987.

في تلك المحاضرة يشير سموه إلى الاتصال الحضاري العربي الإفريقي وتمثّلاته في الفنون واللغة.. يقول سموه.. «.. إن الاتصال الحضاري العربي الإفريقي كان اتصالاً ذا اتجاهين أدّى إلى نقل المؤثرات الحضارية العربية إلى الشعوب الإفريقية كما أحدث تأثيراً مقابلاً في الفنون العربية، بل، وفي بعض مصطلحات اللغة العربية، وهو أمر نلمس مظاهره في منطقة الخليج العربي، والجزيرة العربية..».

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/575mbtmc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"