رقيم الطفولة والحب والمنفى..

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

أجمل من يتحدث عن الطفولة والحب والمنفى هم الشعراء، وأجمل من يحفر في ذاكرات الشعراء هم أيضاً الشعراء، و«الحفر» هنا بمعنى الحوار.

ولكن الحوار الهادئ، الناعم، حوار الصديق للصديق، وحوار الشاعر للشاعر على طريقة الشاعر علي العامري الذي حفر في أعماق سبعة من الشعراء، عرب وغير عرب، وجمع هذه الحوارات في كتاب عذب خفيف الروح سمّاه: «رقيم الحبر»، وعند قراءته، يُخيل إليك أن العامري كان يحاور شعراءه أو أصدقاءه الشعراء وهو يبتسم، وفي طبقة أخرى من الحوار، يخيل إليك أنه يضحك.. ضحكته العالية تلك، والتي يعقبها عادةً في المكان حالة فرح مطرّزة بالضوء.

ولكن، قبل السفر في رقيم العامري أودّ الإشارة إلى أن الحوار، أي حوار، حتى لو كان مع فلّاح أو حوذي أو دبّاغ جلود هو فن، فما بالك حين تحاور شاعراً أو شاعرة؟.. وحول ماذا؟؟.. حول الطفولة والحب والمنفى، وهي أقدار ثلاثة للشعراء، فما أكثر الشعراء الذين جعلتهم طفولاتهم شعراء، وما أكثر من أصبح شبه ملاك بشري بالحب، وأيضاً، ما أكثر الشعراء الذين ارتبطت حَيَواتهم بالمنافي.

ممّن حاورهم علي العامري الشاعر عبدالوهاب البياتي، وفي شعره ثمة دورة دموية إن جازت العبارة هي المنفى، وكان البياتي يقول.. «..وطني المنفى.. منفاي الكلمات..»، وفي مجموعاته: قمر شيراز، وكتاب الحب، وبستان عائشة، تكبر حالة المنفى وتصير في حجم وجود الشاعر كلّه..

سلمى الخضراء الجيّوسي، عز الدين المناصرة، محمد القيسي، ناتالي حنظل.. وغيرهم المئات من شعراء وشاعرات العالم عرفوا المنفى. والحب، والحزن، والبعض عرف الجوع، والبعض عرف الندم والبعض عرف الخيانة والغدر، أحياناً، من أقرب الناس إليه.. غير أن العامري ذهب إلى الأجمل.

ذهب إلى ما هو مبهج وخفيف وناعم:.. الطفولة والحب، وحتى المنفى، يتحوّل أحياناً عند بعض الشعراء إلى وطن.. أو إلى مكان.. مكان يُعَوّل عليه حين يكون فيه حب.

لكن العامري لا يحاور فقط في الحب والمنفى والطفولة كأن هذه الثلاثة موضوعات صندوق مُغْلَق.. لا يسأل مثلاً عن الماء، وهذه الشاعرة المالطية ماريا غريك غانادو تقارب بشعريتها الشفافة بين اللغة والماء.. تقول إن قضاء كثير من الوقت في الاستلقاء في ماء ساخن في الشتاء يُريحني ويسمح للغة بالتدقق إلى ذهني كما لو أنها سائل مثل الماء.

..واللغة فعلاً «سائل»، ولو كانت لغات العالم قد جاءت من موادّ صلبة كالخشب أو الحديد مثلاً، لما وُلِدَ الشعر ذو الخاصّية المائية دائماً وأبداً..

الشعر الذي تتبادل فيه الأدوار: الحب يصبح طفولة، والحب يصبح منفى أحياناً.. والمنفى يصبح لغة سائلة كالماءْ.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9h5ez5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"