علم الاختيار و«صناعة السعادة»

21:41 مساء
قراءة 3 دقائق

د. راسل قاسم*

صمد علم الاقتصاد لآلاف السنين، فقد بدأ الناس بالكلام عن مبادئ التجارة، ثم مررنا بفلاسفة، مثل أرسطو الذي شجع على استخدام هذا المصطلح، وصولاً إلى علم الاقتصاد الحديث الذي يعود تاريخ نشأته إلى القرن الثامن عشر الميلادي، حين وضع عدد من الفلاسفة والمفكرين نظريات ومفاهيم لتفسير الظواهر الاقتصادية التي كانت تحدث في ذلك الوقت. ومن أشهرهم آدم سميث الذي نشر كتابه «ثروة الأمم» في عام 1776، والذي ناقش بشكل شامل الظواهر الاقتصادية وقدّم نظرياتها بطريقة علمية.

ولكل من العلوم القريبة من الاقتصاد، كالإدارة وعلم الاجتماع وعلم النفس، تاريخ يُوثّق، وقصّة تروى. ولكن الملاحظ أن تلك العلوم متشابكة مع بعضها بعضاً، ومتداخلة بشكل وثيق، حيث إنها بالمجمل تتناول موضوعات ومفاهيم مرتبطة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية للإنسان.

فمثلاً، يقدّم علم الاقتصاد للإدارة الأدوات والتقنيات اللازمة لتحقيق أهدافها بشكل فعال وكفؤ، حيث يعتمد القادة والمديرون في اتخاذ قراراتهم وإدارة الموارد المتاحة لديهم على مبادئ وأسس اقتصادية، كالكلفة والعائد والربحية والإنتاجية وغيرها. وعلى الجانب الآخر، يعتمد علم الاقتصاد على مبادئ علم الإدارة في دراسة وتحليل سلوك الشركات واتخاذ القرارات الاقتصادية.

كما يقوم علم الاقتصاد باستخدام الأسس والمفاهيم التي يقوم عليها علم الاجتماع، كدراسة التفاعلات والعلاقات بين الأفراد والجماعات في المجتمع، لدراسة العلاقات الاقتصادية بين الأفراد والمؤسسات والدول. وعلى الجانب الآخر، يستخدم علم الاجتماع مفاهيم علم الاقتصاد لدراسة العوامل الاقتصادية التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية والتفاعلات بين الأفراد.

وأيضاً يستخدم علم الاقتصاد مفاهيم علم النفس عن السلوك البشري في دراسة سلوك المستهلكين واتخاذ القرارات الاقتصادية، كما يستخدم علم النفس مفاهيم علم الاقتصاد لدراسة الأسباب التي تؤدي إلى اتخاذ القرارات الاقتصادية وتحليل سلوك الأفراد والمؤسسات في الأسواق المختلفة.

وإذا ما تعلقنا بقطار الحداثة ونظرنا إلى العلوم الحديثة، سنجد علم البيانات الذي ظهر في العقود الأخيرة، ولكنه ازدهر وازدادت أهميته مؤخراً، نتيجة لتزايد حجم البيانات، وتعقيدها، والحاجة إلى تحليلها واكتشاف الأنماط والمعلومات المفيدة منها، واستخدامها لاتخاذ قرارات مستنيرة. حتى أضحى علم البيانات من العلوم الرئيسية في العديد من المجالات الحيوية والاقتصادية والعلمية.

إن إحدى النتائج المتوقعة في السنوات المقبلة كنتيجة لسير علم البيانات إلى الأمام، الاستغناء تدريجياً عن اختصاصات علوم الاقتصاد والإدارة والاجتماع، وغيرها، وظهور علم شامل يؤدي وظائفها الأساسية، هذا العلم هو علم الاختيار، أو ما يصفه ويليام ديفيز في كتابه «صناعة السعادة» بالعلم الذي يقوم على القواعد التي تحكم سلوكنا والكيفية التي نتخذ بها قراراتنا.

إن علم الاختيار يقوم على الدمج بين علم الأعصاب وعلم البيانات، وسيساعد على ازدهار هذا المجال الطفرة الكبيرة في البيانات المتاحة، وكذلك القدرة على تحليلها ودراستها على مستويات واسعة النطاق.

سيكون من الممكن إذا ما كُتب لهذا العلم السير في الطريق الصحيح، التنبؤ بشكل علمي بالخيارات التي سيقدم عليها الأفراد، خصوصاً أن دراسات وكتب كثيرة مثل كتاب «توقع لا عقلاني» وكتاب «التأثير: علم نفس الإقناع» تقول إننا خاضعون بشكل واع وغير واع للعديد من التحيزات، كما أننا غير قادرين على تحديد مسببات قراراتنا بشكل دقيق، وأن العديد من المسببات غير المرئية تلعب أدواراً حاسمة في ذلك.

إن بواكير هذا العلم الجديد تصل إلينا تباعاً، فقد ظهر مؤخراً ما يعرف بالتسوق التنبؤي، حيث ترسل الشركات منتجاتها الاستهلاكية مباشرة إلى الأفراد من دون طلبهم، ولكن بناء على تحليل البيانات الواردة من أنشطة الاستهلاك لديهم، ومن البيوت الذكية المتصلة بشبكة الإنترنت. والتطبيقات ستتوالى بوتيرة متسارعة إلى أن نصل إلى القدرة على توقّع خيارات وقرارات الأفراد بدقة عالية، وهنا ستبدأ الحدود بين علوم الاقتصاد والاجتماع بالذوبان، وتنتقل العلاقة من تشابك وتكامل إلى دمج واتحاد.

* خبير إداري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mttpkjtk

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"