عادي

الجامعة العربية والشمعة 78

00:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

احتفلت منذ أيام جامعة الدول العربية بالعيد الثامن والسبعين لتأسيسها، وأحسب أنها احتفالية حزينة شاحبة، كحالة الأمة العربية الراهنة، والتي تعاني التشظي والخلافات والهوان.

عرفت الجامعة العربية عن قرب، وعلى مدى سنوات، تفاعلت مع نظمها واجتماعاتها وطموحاتها، ومجالسها المتخصصة، ومع الكثير من قياداتها، في مراحل مختلفة، في حالات الشموخ والتأثير، وأخرى في حالات التراجع والانكسار.

قدت وشاركت في مسيرات وتظاهرات طلابية أمام جامعة الدول العربية، في ستينات القرن الماضي، دعماً لها تارة، واعتراضاً تارة أخرى على مواقف غير شعبية، أو احتجاجاً على ترددها في نصرة قضايا الحرية والتضامن العربي.

وأذكر دخولي لأول مرة مكاتب الجامعة العربية في ميدان التحرير بالقاهرة، برفقة وفد يمثل الطلبة العرب في الجامعات المصرية، ومقابلة الأمين العام المساعد للشؤون السياسية د. سيد نوفل، وقدمنا له بيان احتجاج على عدم معاقبة ليبيا وتونس، الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين لم تقاطعا ألمانيا الغربية، بسبب تقديمها أسلحة متطورة إلى إسرائيل.

في هذا اللقاء العاصف، سمعت الدرس الأول في فهم طبيعة الجامعة العربية وميثاقها، باعتبارها مجرد «سكرتارية إدارية وفنية» وعليها تنفيذ إرادات عربية مختلفة، وليس لها أن تعارض أو حتى تناقش.

في عقد السبعينات، تفاعلت وشاركت في معظم اجتماعات مجالس ولجان جامعة الدول العربية، ومؤتمراتها وحواراتها مع الأوروبيين والأفارقة، وشهدت مساجلات حادة بين زعامات ووزراء حول الأوضاع العربية، وبعضها كان يخرج عن المألوف في المناقشات، وتعرفت خلالها إلى تضاريس السياسات العربية وعُقدها، وما وراء الخطب و«الكواليس»، ورأيت في محمود رياض، الأمين العام للجامعة وقتها، قامة قومية شامخة، يحرص على أن يتجاوز وظيفته (الإدارية والفنية)، ولا يقبل قيداً أو مجاملة لدولة ما أو حتى لدولة المقر، وهو منها.

تحضرني اليوم، قصة نشأة الجامعة العربية في العام 1945، سبع دول عربية، تشاورت فيما بينها في الإسكندرية، حول سبل مواجهة تحديات الاستقلال، بعضها ناقص السيادة، أو تحت الاحتلال الأجنبي، وبعضها خارج للتو من مرحلة كفاح وطني من أجل الاستقلال، طالب بعض منها بدولة «سوريا الكبرى»، وطالب آخرون ب«هلال خصيب» كما طالبوا ب«تحالف عربي».

كان نوري السعيد (العراق)، أول من اقترح عقد مؤتمر عربي للوحدة، وأرسل وفوداً لشرح موقفه، تلاه مصطفى النحاس (مصر) الذي وجَّه دعوات إلى الحكومات العربية الست، القائمة في ذلك الوقت، لعقد مشاورات ثنائية والتي تواصلت في النصف الأول من عام 1944، بدءاً من العراق وسوريا والأردن والسعودية واليمن، أما لبنان فاكتفى بإصدار بيان باسم رياض الصلح، رئيس الوزراء، يبدي فيه رغبة لبنان في التعاون مع الدول العربية، «شريطة اعترافها بكيان لبنان المستقل وحدوده». وتشير الوثائق الرسمية العربية إلى أن العراق كان الأكثر حماساً لفكرة (اتحاد عربي)، وأيده شرق الأردن، أما سوريا التي كان يرأس مجلس وزرائها سعد الله الجابري، فكانت تميل إلى مشاريع سوريا الكبرى والهلال الخصيب. ووافق الوفد السعودي الذي كان برئاسة يوسف ياسين، نائب وزير الخارجية، في مشاوراته مع مصطفى النحاس، على تعاون عربي يشمل الميادين الاقتصادية والثقافية فقط، وأيده في هذا الموقف وفد اليمن برئاسة علي المؤيد، وانتهت هذه المشاورات الثنائية قبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها، وكان الرأي العام العربي يضغط في اتجاه تحقيق الوحدة.

وفي ظل هذا المناخ، انعقدت لجنة تحضيرية في الإسكندرية، بحضور مندوبين يمثلون الدول السبع، إضافة إلى وفد يمثل عرب فلسطين، واتفق المشاركون على عدم الأخذ بفكرة «الحكومة المركزية» أو «الاتحاد العربي»، وإنشاء «جامعة» للدول العربية، وتكون قرارات مجلس هذه الجامعة ملزمة فقط لمن يقبلها. وتم التوقيع على بيان اللجنة التحضيرية، الذي عرف باسم «بروتوكول الإسكندرية» في أكتوبر 1944، وملحقيه الخاصين بفلسطين ولبنان، وقد تأخر توقيع السعودية واليمن على هذا البروتوكول نحو ثلاثة أشهر، ثم تولت لجنة فرعية إعداد مشروع ميثاق للجامعة العربية، على ضوء هذا البروتوكول، برئاسة النقراشي باشا، ولعب عبد الحميد بدوي، وزير خارجية مصر، دوراً كبيراً في صياغة الميثاق، باعتباره أحد كبار فقهاء القانون الدولي، وصادقت الدول السبع في عام 1945 على الميثاق، واعتبر يوم 22 مارس يوم ميلاد الجامعة.

وقد انضمت إلى الجامعة جميع الدول العربية، بعد حصولها على الاستقلال، بدءاً من ليبيا (1953) والسودان (1956) والمغرب وتونس (1958) والكويت (1961) والجزائر (1962) واليمن الجنوبي (1967) والبحرين وقطر وسلطنة عُمان والإمارات (1971) وموريتانيا (1973) والصومال (1974) وجيبوتي (1977) وجزر القُمر (1993)، أما فلسطين فقد تمتعت بعضوية كاملة منذ (1976).

تطوف في الذاكرة صور للمشاركين في تأسيس الجامعة العربية، وهم يرتدون في أغلبيتهم «الطربوش» الأحمر، وبهندامهم الأنيق، قامات سياسية كبيرة مثل: فارس الخوري، وتوفيق أبو الهدى، والنقراشي باشا، وجميل مردم، ونوري السعيد، وحمدي الباجه جي، وخير الدين الزركلي، وأحمد أمين، ومعهم الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، الذي عين أول رئيس للجنة الثقافية في الجامعة العربية.

راجعت قرارات مجلس الجامعة العربية، في سنواتها الثلاث الأولى، وكيف كانت نسبة مساهمة مصر في موازنتها تصل إلى 42 في المئة والعراق نحو 20 في المئة، وكيف تولى وزير خارجية سوريا جميل مردم حملة «الدعاية لفلسطين» في لندن وواشنطن، والعمل على توحيد الأحزاب الفلسطينية (منذ ذلك اليوم وحتى الآن، ما زالت هذه المشكلة قائمة). واطلعت على قرارات بمنع الصحافة من الإساءة للعلاقات بين الدول العربية (الإشكالية مزمنة حتى الآن)، والاحتجاج على استفحال الإرهاب الصهيوني في فلسطين (الاحتجاج نفسه متواصل حتى الآن)، ورصد مبالغ لمواجهة المجاعة في تونس وطرابلس.. إلخ.

عدُت إلى مقر الجامعة العربية، في أكتوبر الماضي، للمشاركة في مؤتمر يسعى لتأسيس «مجموعة السلام العربي - العربي» شارك فيه عدد من المفكرين ونخب سياسة ذات خبرات طويلة، ومهمومون بقضايا العمل العربي المشترك وبناء جسور السلم بين الدول العربية.

مررت بالقاعة المؤدية إلى القاعة الكبرى للاجتماعات، لامست بأصابعي الفسيفساء الملونة الدمشقية والأندلسية على جدران القاعة الصغيرة التي كنا في السبعينات نقضي فيها فترات الاستراحة، بدت لي باهتة وكأنها شاخت. بحثت عن روح المكان، عن رائحة كانت مبثوثة في فضاء ردهات الجامعة وحجراتها، عن موسيقى عربية شجية تتسلل إلى زوار المكان، وتدعوهم للتفاؤل والفرح والحلم الأخضر.

.....

تذكرت حديث المرحوم سيد نوفل قبل عقود بعيدة، وتذكرت الدرس الأول، الذي تعلمته وأنا في صباي، وقلت في نفسي: نعم، «الآن فهمت».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/484bmu63

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"