عادي

بدوي أمام خيمة فيروزية

23:50 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

لننس السياسة، ومفاجآتها وتحولاتها وفواجعها ومعاييرها المتناقضة، و«قلة» أخلاقياتها، ونستحضر شيئاً من منظومة المشتركات الثقافية العربية، كالفن، ومنه الغناء والموسيقى، كلغة مشتركة جامعة، عابرة للمسافات والحدود الجغرافية، ومؤثرة في الوجدان والمعرفة، وقادرة على تجاوز الخلافات والحواجز، ومُيسِّرة للحوار والتفاعل والتواصل.

نستحضر الغناء الجميل الذي يَعْبُر بسهولة إلى خلايا النفس، ويستقر ويستوطن، الغناء الذي يقتل الضجر في عالم مضطرب ومتوحش، عالم فيه وفرة من المعرفة، ونقص في الحكمة، عالم لامس القمر والكواكب، وعجز عن العيش بسلام مع نفسه، الغناء الذي يخاطب ما فينا من حنين إنساني مشترك، ويعلو على ماديات الحياة، ونوازعها الطبيعية، ويحررها من الإسار البشري الغرائزي، وخاصة في زمن الزلازل القوية التي أحدثتها «الشبكة العنكبوتية» في جوهر الثقافات والإبداع البشري.

لا نستحضر ذلك الغناء الفج، والذي يشبه ثغاء الماعز، ولا ذلك الغناء المبتذل، الذي يعتمد الإثارة والغرائز، ويفتقد الأحاسيس والمشاعر الإنسانية الراقية، والرقيقة، والدفء الإنساني.

سألتني رفيقة العمر، ذات يوم: لماذا تعتبر سماعك لأغاني فيروز، حاجة يومية، وبخاصة في فترة الصباح، وكأنك تغتسل كل يوم بأغنياتها؟

حسناً، ها أنا أسمع الأغنية نفسها مرات ومرات، ولا أمل من الاستماع، ولا تتغير مكانتها عبر سنوات العمر، ومنذ المراحل الأولى للشباب، ورغم كل التحولات في حياة الإنسان.

نعم، هي حاجة يومية نستدعيها عند الاختلاء بالنفس، لتسحبنا من انشغالات السياسة أو هموم قد تتراكم على العقل، فتولد فينا المشاعر المؤثرة والانفعالات الإيجابية المكثفة، وتوقظ الحنين لإشارات وأماكن ومشاهد من زمن ظل ساكناً في الذاكرة أو في الأحلام.

إنها فرادة في الصوت والأحاسيس، واللفظ السليم، والسلوك المحترم، والحضور الإنساني الجميل والدافئ.

وعندها ترتفع الأغنية إلى مستوى «صلاة للروح حرة» وتلوح لي، وهي تؤدي أناشيدها وتراتيلها، حالة كاملة من النقاء والوطنية و«الصوفية» وقضايا الإنسان في الخير والجمال والحب والحرية، وكأني بصوتها الرائع «الملائكي»، هو الذي أوحى أو ألهم إبداعات مؤلفي أغانيها، فكتبوا ما يليق بصوتها وبارتفاع أغانيها التي تستدعي التأمل لا التصفيق أو الطرب، وتملؤنا جمالاً وشفافية. فيروز وعمرها يقترب من الثماني والثمانين، ليست مجرد مغنية عابرة سبيل، وإنما هي «ظاهرة فيروزية»، غناؤها مسكون بأطياف الوطن، ومدن عربية عريقة، وقد رافق صوتها كل التحولات العربية، معبراً عن توجه وطني وقومي وأخلاقي، مشبع بالعطاء والمحبة، باثّاً الأمل والرجاء، باللحن والكلمة وعذوبة الصوت.

غنَّت فيروز لمعظم عناصر الطبيعة، للطير والشجر والجبل والزهور والحقل والقمر والشمس والنسيم والليل والنهار، وللحب والحنين والبراءة والقناديل والطفولة والغياب والفقدان.

الأوطان في أغانيها نسيج من الضوء، والرجاء والجلال، وقد غنت لمدن عريقة، ولشوارع القدس العتيقة، لمصر «عادت شمسك»، «ويا شام عاد الصيف»، «وشآم أهلوك أحبابي»، كما غنت لمكة «أهلها الصيدا»، ولبغداد وعمّان والأندلس، وظل لبنان في جوهر الإنشاد الفيروزي، وكأنها فيروز هي «ناطورة مفاتيح» لبنان، ويا الله «من يعيد لبنان إلى ذاته»؟

كما غنت للإمارات، بكلمات وألحان الأخوين رحباني، وقالت:

عادت الرايات تجتاح المدى

وجعلنا موعد المجد غدا

يا إمارات على أبوابها

يصرخ البحر، وينهدّ الصدي

نهضت وسع العلى فاتحّدت

وتسامى شعبها فاتّحدا

رائع وجهك في وثبته

أيها الشعب الذي الحقّ ارتدى

لفتة صوت غدٍ عزمُ يدٍ

ورحيلٌ بالحضارات ابتدا

ها هنا والأرض فاضت مدناً

وعطاءً أيّ صبح وعَدَا

كتب النصر على راياتنا

إن تكوني المجدَ كنتِ العددا

قال عنها محمود درويش: «إن أغانيها هي أحد أسماء هويتنا العاطفية». وكتب أحدهم: «فيروز سيدتي، حين أصغي لأغانيك، أعود بدوياً قديماً، يحمل الجمر على باب الخيمة، ولا يدري لماذا أغلقت ليلى باب الخيمة بالشموع والدموع».

نعم، فيروز، نصبت خيامها في كل ديار العرب، ورافقت المغتربين منهم في شتى أنحاء الأرض، حملوها في قلوبهم وحقائبهم، لأنها الشعر والموسيقى والصوت الذي تشربه أرواحهم.

أفضل سماعها في ساعات الصباح، وحينما أنشغل في الكتابة والتأمل تأتيني وكأنها غيمة أو حفيف مطر يداعب أرضاً عطشى، أو قمراً نوَّر ليلنا، وأطل على البشر برفق وحنان، ورافقهم في دروبهم وسمرهم.

ويسألونك: لماذا «فيروز»؟

هي فصل راقٍ من تراثنا الفني والثقافي، في زمن الفجاجة والابتذال الغنائي والفن الهابط و«المسلسلات» الرمضانية المريضة بمعاني الفتنة وتزوير التاريخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4mnb8t8s

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"