عادي
زاد القلوب

العلم.. دليل المؤمن في الحياة

17:51 مساء
قراءة 4 دقائق
الشارقة: علاء الدين محمود
«العلم طريقٌ إلى العمل.. والجهل عمودُ الطمأنينة»، هذه المقولة الرائعة التي تستند على المواعظ الإسلامية والأحاديث الشريفة والقرآن الكريم حول أهمية العلم، هي للعلامة محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، «375 هـ/‏ 965م» أحد أهم العلماء الذين اختاروا طريق التصوف في القرن الرابع الهجري، وهو مجتهد ومفكر يجمع بين التصوف والفلسفة الأدب، ودائماً ما تلقى عباراته وأقواله ومواعظه الاهتمام والصدى الكبير منذ الفترة التي قيلت وكتبت فيها وحتى عصرنا الراهن، إذ تناقلتها الأجيال جيلاً بعد آخر، وذلك الأمر يعود للاختلاف الكبير عند النفري والمعرفة الواسعة والمقدرة على صناعة مقولات بل ومفاهيم خالدة وراهنة؛ وذلك لأنها تتسم بالعمق وتحتفي بالمعنى والمقدرة على الغوص في دواخل الإنسان، والتأمل في أحوال الوجود والكون، لذلك دائماً ما تلقى عباراته تداولاً واسعاً وشرحاً على الشرح من قبل علماء الدين والفلاسفة والأدباء، حيث إن الكثير من عباراته هي بمثابة نصوص فلسفية بليغة ورفيعة، تعبر عن تجربة روحية مميزة لهذا العلامة الجليل.
كانت حياة النفري غامضة، فلا أحد يدري على وجه الدقة والتحديد متى وُلد، وحتى تاريخ وفاته المتداول مختلف فيه، ولكن أبرز ما عرّف بالنفري هو ما كتبه عفيف الدين التلمساني الذي عاش في القرن السابع الهجري/‏الثالث عشر الميلادي، لكن الثابت أن النفري وُلد ببلدة نفر في العراق، وعاش في عصر الدولة العباسية، وكان كثير السفر والترحال، فتنقل كثيراً، خاصة بين العراق ومصر.
وهذه العبارة تحرض المؤمن على ضرورة التفكير والتأمل والتدبر في الكون والتحلي بالمعرفة؛ لأن الجهل هو العدو الأكبر للإنسان، وهو الذي يرميه في شرك الطمأنينة الزائفة، ولعل تلك المقولة تحركت في ذهن النفري وأغرته بأن يقولها استلهاماً لما ورد في القرآن الكريم من آيات تدعو لمعاني التفكر والتدبر وتوظيف العقول والألباب والنهى، فتلك الكلمات وغيرها وردت كثيراً في آيات الذكر الحكيم، وذلك يدل على المكانة المتميزة والرفيعة للمعرفة في الإسلام وتعاليمه، حتى كبرت منزلة العلم والعلماء عند الناس، وظهرت مقولات تمجد المعارف مثل «العلم نور»، التي صار العامة والخاصة يحفظونها ويتداولونها، فأصبحت المعرفة فضيلة، وبالمقابل فإن الجهل هو مكمن الرذائل والأخطاء؛ حيث إن العلم يبني الأمم والمجتمعات والحضارات، بينما يهبط الجهل بكل القيم الإنسانية، ولقد وعت الحضارة الإسلامية تلك المعاني فاهتمت بالعلوم في مختلف المجالات والفلسفة والكلام، فصار لها أعلام في هذه الضروب المعرفية المهمة، وأضحت هناك علوم ومعارف إنسانية أسهمت في تغذية حضارات وثقافات العالم أجمع، فقد كان لها تأثير كبير في تلك المجالات.
  • درر
ولعل النفري نفسه، قد تمثل تلك المقولة تماماً، فكان رجل دين ومفكراً وفيلسوفاً وأديباً، وكانت لمقولاته تأثير كبير على المعرفة العربية والإنسانية بطابعها الفلسفي الصعب، وكأن هذا الصوفي الجليل يأبى أن تنفتح مغاليق كلماته إلا لمن أوتي المعرفة والعلم، واجتهد لكي يصل إلى درر المعاني الكامنة في نصوصه، وبالفعل فإن من أول من عرّف الناس بالنفري وفلسفته وتصوفه عبر إشارات عميقة، كان عبقرياً آخر من عباقرة الفلسفة والتصوف هو محيي الدين بن عربي، خاصة في مؤلفاته «الفتوحات المكية»، و«رسالة الأعيان»، وهي الكتب التي أشار فيها ابن عربي إلى كتاب النفري «المواقف والمخاطبات»، وهو من أشهر النصوص الفلسفية والصوفية على حد سواء.
والعبارة هي من «السهل الممتنع»، على خلاف الكثير من أقوال النفري، الذي اشتهر بالأقوال الصعبة، لكنها كذلك لا تخلو من الصعوبة على مستوى التأويل، وهي في ذات الوقت تكشف عن شخصية هذا الصوفي المعذب، الذي قضى عمره في المعرفة؛ حيث إنه قد اختار طريق السالكين من المتصوفة، بالتالي فإن الكلمات قد تحمل دلالات مختلفة عن السائد، بحيث إن المعارف التي يقصدها هي التي تتنزل على السالك المحب لله تعالى، عندما تغمره فيوضات الأنوار الإيمانية، وقد عرف عن النفري أنه لا يستقر في مكان واحد، ويميل إلى حياة العزلة والزهد بعيداً عن أعين الناس، مكتفياً بالله تعالى، راجياً القرب منه، فكانت رحلته الدائمة إلى الله، عز وجل، سبيلاً لنيل الرضى والقبول، ولأن تتفتح له الأسرار، وتتنزل عليه إشراقات الحكمة والمعرفة والمحبة، وقد كان قانعاً بذلك، يوطن نفسه لعيش حياة السالكين، يقضي وقته تفكيراً وتأملاً في ملكوت الله؛ لذلك قال عنه المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون، المتخصص في التصوف وأخبار أعلامه: «هو درويش جوّاب آفاق، مغامر في أقطار الأرض»، وقد ذكر كثيرون أن النفري لم يكتب شيئاً، وأن كل ما تركه هو كلام شفهي التقطه تلاميذه ودوّنوه تكريماً لأستاذهم.
ولئن كانت مقولة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، هي أهم مقولات النفري، فإنه ومنذ أن أطلقها صار يعمل على توسيع العبارات برؤى فكرية وتصورات روحية يسربها في نصوصه الرفيعة، ومنها هذه المقولة التي نحن بصددها، والتي تعلي من شأن المعرفة، وتؤكد أهميتها، فهي الطريق الأمثل لفهم العالم وتكوين الرؤى والأفكار حوله، وفي الواقع فإن مؤلفات النفري ومقولاته كان لها صدى مختلف وكبير لدى المستشرقين، ويرجع الفضل بشكل أساسي للمستشرق آرثر جون آربري، في اكتشاف أحد أهم المؤلفات الصوفية؛ بل يعتبرها البعض أفضلها على الإطلاق، ألا وهو كتاب النفري «المواقف والمخاطبات»، سنة 1934، ومنذ تلك اللحظة صار هذا المرجع نهباً للبحث والتشريح من قبل العلماء والأدباء والنقاد والمثقفين، وقد أعجبوا به أيما إعجاب، خاصة الشعراء والأدباء؛ لكون الكتاب يمثل مرجعية مهمة في الأدب، ويعتقد الكثيرون أن النفري وعبر أسلوبه الخاص، وإتقانه اللغوي حد الإبداع في الرمز والإشارة والتكثيف والغموض، واللجوء إلى الكتابة الشذرية، لقد تجاوزت تجربته إمكانات الواقع، من أجل أن تُحسِنَ الغوص في داخله، وتُحسن استقصاء ما يُضمره، فهي تجربةُ رموزٍ وإشارات وتلميحات.
  • دلالات
وعلى الرغم من أن المقولة تحمل دلالات فكرية وأدبية مهمة، إلا أنها تنتمي بصورة أساسية إلى التجربة الروحية الصوفية للنفري، وتعبر عنها وما فيها من إشراقات وتجليات، فقد أقبل على طريق التصوف والزهد والتقرب إلى المولى، عز وجل، بأدوات الشعر والشذرات والمقولات والعبارات التي خلدها التاريخ واحتضنتها قلوب العاشقين وأصحاب التجارب الروحية حباً وسلاماً وراحة وطمأنينة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/277upzj8

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"