مينارد كينز.. والسيرك!

21:39 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*

واجهت الرأسمالية مشاكل دورية على الأقل جراء التوترات المصرفية منذ عام 1837، ولكن الحدث الذي وقع في الثلاثاء الأسود في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1929 كان الأسوأ حتى ذلك الوقت. ضاعت الثروات وأعلن الكثيرون إفلاسهم، ولكن كان الاستخدام السيّئ للموارد هو الأكثر إثارة للقلق. وارتفعت معدلات البطالة حتى وصلت إلى 25 % من قوة العمل في الولايات المتحدة وأوروبا. بينما تناقص معدل الإنتاج نفسه بمقدار الثلث خلال الثلاثينات من القرن الماضي، وتناقصت القيمة النقدية للإنتاج بمقدار النصف. وتوقفت جميع الاستثمارات الجديدة. واجتاحت التموجات العالم بأسره. وقارن بعض النقاد الوضع بالزلزال. وكان الاقتصاد نفسه تحت الحصار. وثار التساؤل هل كان هذا هو سقوط الرأسمالية الذي تنبأ به ماركس؟

أدت الأزمة إلى ظهور جون مينارد كينز في المقدمة مرة أخرى. وقد تدرّجت رؤيته إلى أن تحولت إلى كتاب، بعنوان «النظرية العامة للتوظيف، الفائدة والنقود، والذي تمّ تقديمه فصلاً وراء فصل لمجموعة من المساعدين في كامبريدج، وقد عرف هذا الكتاب بينهم ب «السيرك»، ومن ثم نقلت تلك التسمية إلى المؤتمر المثير للاهتمام والمكوّن من زملائه من المدرسين، والذي جرى في منتصف الطريق بين كامبريدج ولندن. وأتى ذكر ملحوظة التخمة المعممة في قلب «النظرية العامة»، وهي احتمالية أنه، عند وضع ما تم إنتاجه في الاعتبار، فإنه يمكن ألّا تكون هناك رغبة لدى المستهلكين لشراء هذا الإنتاج، وبذلك يمكن حدوث واستمرار حالة من الكساد إلى أجل غير مسمى، إلى أن يحدث شيء ما. بمعنى آخر، يمكن أن يفشل ميزان تصحيح اتجاه اليد الخفية.

وقد رأى أتباع جون مينارد كينز، أن العرض يعمل على خلق الطلب الخاص به بطريقة تلقائية. ولكن كان اتباع كينز مخطئين، وذلك وفقاً لكتابات كينز. وكان رضاء الاقتصاديين المتعجرف في غير محله. فقد كان لدى الاقتصاديات الصناعية اتجاه للتوقف عند المستويات المرتفعة من البطالة. وكان التهديد الكبير يأتي عن طريق وجود طلب لي غير ملائم، وليس من الإفراط في التراكم.

وقد شمل تشخيص الأزمة حالاً جديداً: وهو أنه ينبغي للحكومة أن تملأ فجوة الطلب الكلي، وذلك عن طريق القيام بالاقتراض بهدف إنفاق أموال لا تمتلكها. فإذا استطاعت الحكومة أن تقوم ب«الضخ المبدئي»، وأن تحرك الاقتصاد إلى التوظيف الكامل، فإن الاقتصاد سيصل إلى حالة التوظيف الكامل بنفسه. (يوجد بديل آخر، وفقاً لكينز؛ حيث قال: «نحن نواجه مشكلة في المولد - كما هو الحال في السيارة - كيف يمكن إذن أن نبدأ من جديد؟»)، ولكن ونتيجة لاستمرار حالة الجدل بين العامة بطريقة تناظرية عادية، استحدث الاقتصاديون كلمة جديدة معقدة استخدموها لمناقشة أسباب الأزمة والكساد الذي نتج عنها فيما بينهم.

إن الاعتراف الصريح بعدم إمكان الاعتماد على السوق بالضرورة دائماً في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تضمّن نوعاً من الانقلاب الشديد على الحكمة القائمة. فقد زاد من احتمال وجود «توازنات متعددة». بدلاً من التوازن الأوحد والعام والأفضل والذي يمكن الاعتماد عليه بين العرض والطلب، والذي كان من المفترض أن ينتج عن اليد الخفية، ولكن كان من الممكن أن يحدث التوازن في ظل وجود بطالة مرتفعة أيضاً. فقد «يعلق» الاقتصاد، بعيداً عن توازنه في ظل حالة التوظيف الكامل. وبذلك تم تعريف آلية جديدة لوضع تلك الاحتمالات في الاعتبار - جمود الأجور، أو الأجور «اللزجة»، والتي لا يرغب أصحاب الأعمال ولا العاملون في الاستقرار عليها. واكتسبت العوامل النفسية أهمية جديدة - أطلق عليها «تفضيلات السيولة» و«الميل نحو الاستهلاك»، والتي تمت إعادة صياغتها «دالة الاستهلاك». وتوسط النثرَ المتوهجَ عددٌ قليلٌ من المعادلات المبعثرة، بدلاً من الرسوم البيانية المعتادة في كتاب «النظرية العامة»، وقد كانت تلك المعادلات كافية لتقديم أسلوب جديد من الجدل لقراء كينز، لكن كان هناك عديد من فروع الجدل الأخرى في الكتاب، وإن لم تكن جميعها متسقة مع بعضها. مع وجود قدر ضئيل من المعادلات.

منذ وقت غير طويل، انقسم المهندسون والأطباء والاقتصاديون الأمريكيون من ذوي الاتجاهات السياسية إلى مجموعتين، هما كينزيون ومعارضون لكينز. «كان الأمريكيون الكينزيون في يسار المنتصف إلى حد ما، فقد حافظوا على الراية. أما الأمريكيون المعارضون لكينز فقد أعادوا تسمية أنفسهم على أنهم النقديون» أتباع المدرسة النقدية. فضل الكينزيون السياسات التي تميل إلى الاعتماد على وجود تدخل من الحكومة، أما النقديون فقد فضلوا السياسات التي تدعو إلى تحرير السوق Laissez - faire وسعوا إلى فرض قيود على الحكومات عن طريق قواعد متنوعة. وعلى أي حال، وبالرغم من تشارك الكينزيين والنقديين في الإحساس بإلحاح الاحتياجات والرسالة الملقاة على عاتقهم فإنهم اختلفوا حيال الآليات المختلفة محل البحث. ولكن لم يحذُ المحدثون حذوهم؛ حيث إنهم عملوا على أمور أكثر صعوبة. وفي حقيقة الأمر فإن تعداد الاقتصاديين المتوجهين نحو العلوم الأساسية للحركة الحديثة كان قد ازداد، حتى تعرض أيضاً إلى نفس النوع من الانقسام بين الخطوط السياسية. وقد فرق أعضاء المجموعتين أنفسهم بين بعضهما كمدرسة المياه المالحة ومدرسة المياه العذبة، وذلك وفقاً للمنطقة التي يوجد فيها مركز البحوث الخاص بكل مدرسة. وعادت جميع قوى المعارضة بشكل ما إلى كينز، والذي أدى اكتشافه للغز الادخار إلى إشعال حوار استمر على مدار خمسة وسبعين عاماً.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ympt9p34

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"