في تناقضات السلم الأهلي

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

كل دعوة للسلم الأهلي في بلد ما، هي بالضرورة تعبير عن مخاوف الانتقال من حالة الأمان المجتمعي الهشّ إلى الحرب الأهلية، أي أنها من حيث المبدأ، اعتراف بغياب المقوّمات السياسية التي تسمح بديمومة حالة الاستقرار، وبوجود تربة محمّلة بكل أسباب نمو الكراهية بين أطراف محلية إلى درجة، يكون معها استخدام السلاح هو أحد السيناريوهات الأكثر ترجيحاً، وأن شرارة انطلاق الحرب جاهزة، وليس مهماً إذا كان السبب المباشر مفتعلاً أم بمحض المصادفة، فالبيئة العامة حينها تكون جاهزة لتقبّل فكرة الحرب، كحل لا بد منه، من وجهة نظر طرف أو أكثر.

في أحيان كثيرة، تأتي الدعوة للتمسّك بالسلم الأهلي من أطراف، هي ذاتها من يمارس خطاب الكراهية والتحريض ضد الآخر المختلف عنها قومياً أو دينياً أو مذهبياً، أو من قبل أطراف، هي في العمق مقتنعة بضرورة مثل هكذا حرب، لتحقيق تفوّق مشروعها السياسي، لكنها لا تمتلك إمكانيات وأدوات الانتصار، أي أن الدعوة من قبلها للسلم الأهلي، ليست دعوة من يرفض منطق الحرب بين مكونات المجتمع الواحد؛ بل دعوة من ينتظر امتلاك ميزان القوى الذي يسمح له بتحقيق انتصار ساحق، يُخضع من خلاله بقية الأطراف لرؤيته ومصالحه. في صلب خطاب الكراهية الذي يستخدم سياسياً للتحريض ضد الآخر، هناك قناعات راسخة حول تفوّق الذات، التاريخية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية، أو اجتماع كل هذا التفوّق في ذات واحدة، ترى أن الآخرين دوناً عنها في كل شيء، بما في ذلك المستوى الإنساني المحض، ما يسهّل قبولها بشنّ حرب ضد هذا الآخر، حتى لو كانت حرباً ساحقة ماحقة، فهو في نهاية المطاف، بالنسبة لها، عبء على حياتها ومستقبلها وأمانها وازدهارها، وهي قادرة على إيجاد مسوّغات سردية وثقافية وأخلاقية لخطابها التحريضي والإلغائي، إذ إن حشد الجماهير لتأييد مثل هكذا خطاب، يحتاج إلى سياق تبريري، تقع المسألة الأخلاقية في متنه، وتشكّل مرجعيته.

في سياق سردية التبرير، لا تغيب المسألة الوطنية، التي يتم استخدامها وبناء مفرداتها ومنطقها وفق مصلحة أطراف، تنظر إلى الوطن بدلالة وجودها ومصالحها هي، لا بدلالة التنوع الموجود في المجتمع، فهذا التنوع بالنسبة لها لا تتم عملية هندسته سياسياً بما يحقق مصالحها، ما يجعل المسألة الوطنية مجرد ديكور، يستخدم للتغطية على مضمون الخطاب التحريضي، القائم على الاستعلاء والإلغاء، وهذا بالضبط أحد أبرز مؤشرات الواقع والموقع الإشكاليين للمسألة الوطنية في الحالة السياسية، لمجتمع على وشك الاقتتال المجتمعي.

وفي هذا السياق من نمو للعوامل المهيئة لتفتيت السلم الأهلي، والقضاء عليه كلياً، هناك حقيقة سياسية، غالباً ما يتم تجاهل تأثيرها، وهي ضعف القوى السياسية الحديثة، التي لا تستند في مرجعياتها الأيديولوجية والسياسية، ولا في مشروعها المجتمعي، إلى المكونات المجتمعية بصيغتها الأهلية، وهي تتبنى رؤية ما فوق أهلية، أي ما فوق طائفية أو مذهبية أو مناطقية.

منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، دخل المشرق العربي، من البوابة اللبنانية، إلى مناخات الحرب الأهلية، التي انتهت، وكما ظهر لاحقاً، بهدنة مؤقتة، عبر «اتفاق الطائف»، وبقيت استعادة السلم الأهلي، أو تجاوزه، إلى منطق السلم المؤسس على الدولة الوطنية، مجرد فرضية، لا تدعمها الوقائع السياسية، لا المحلية، ولا الإقليمية، لكن عدوى الحرب الأهلية، انتقلت إلى العراق أولاً، ثم إلى سوريا، ما جعل السلم الأهلي هو الغائب الأكبر في مشهد المشرق العربي.

ما هو أسوأ من غياب السلم الأهلي، هو تكريس فكرة الأمن المبنية على توازن القوى بين المكونات الأهلية، أي ممارسة السياسة في المجتمع ومؤسسات الحكم، انطلاقاً من تكريس الانقسام الأهلي، من خلال منطق المحاصصة، وهو وصفة ناجعة لاستمرار الانقسام الأهلي من جهة، ومنع قيام دولة وطنية حديثة من جهة ثانية، وما بينهما تكريس قوى سياسية تستمد شرعية وجودها من استمرار واقع السلم الأهلي الهشّ، ومستعدة على الدوام لإنشاء تحالفات خارجية، لتثقيل مكانتها الداخلية، ما يجعل منها أداة وظيفية بيد قوى خارجية؛ بحيث إنها تفقد إلى حد كبير، وربما كلي، أية استقلالية، بما فيها استقلالية تمثيلها للمكونات الأهلية، التي تزعم أن مسؤوليتها هي الدفاع عن وجود تلك المكونات ومصالحها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/875s6m4d

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"