فراغ لبنان القاتل

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين

بات لبنان من بين الدول القليلة التي تكافح للبقاء، وسط فراغ مؤسساتي لا مثيل له في تاريخه المعاصر، فراغ رئاسي وحكومي عبر تصريف الأعمال، وسلطة تشريعية محدودة الحراك، وقضاء تتجاذبه القوى السياسية الحاكمة، عدا فراغ مالي في المصرف المركزي الذي يسيّر بالإنابة، وسط انتظار الفراغ في قيادة القوى العسكرية والأمنية خلال أشهر قليلة، ما يشير إلى خواء دستوري وسياسي وعسكري وإداري يشير إلى انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة.

 وبطبيعة الحال، تترك هذه الفراغات المتتالية والتي تبدو وكأنها منظمة، آثاراً وتداعيات مميتة في مختلف جوانب الحياة اليومية للبنانيين، ففي ظل غياب رأس السلطة في الدولة، لا توجد مؤسسات قابلة وقادرة على الاستمرار، حيث تُدار الأعمال الحكومية أو ما تبقى منها بصفة تصريف الأعمال وبحدها الأدنى، وسط تجاذب القوى السياسية حتى على جداول الأعمال المقترحة، التي غالباً ما تفرغ من مضمونها الأساسي، ليقتصر التصريف على جوانب تبدو بَدَهِيّة ولا تحتاج في الأساس إلى كثير من التدابير والاتفاقات المسبقة. بينما يكاد العمل التشريعي يكون معدوماً، ومتصلاً في أحسن الأحوال بقضايا متفق عليها سلفاً، وبدقة تراعي مواقف ومصالح الكتل السياسية غير المتجانسة أساساً. 

 في حين تبدو السلطة القضائية في أسوأ صورها، حيث لا محاكم فاعلة ولا قرارات في ظل اعتكاف غير معلن في كثير من المواقع القضائية.

 باختصار، ثمة موت سريري في المؤسسات الدستورية، حيث لا تعاون ولا تواصل في حده الأدنى، وتقتصر الأمور على نمط سلوكي سياسي هجين لا مثيل له في النظم السياسية المعاصرة.

 وفي ظل هذا الواقع السياسي الدستوري المزري، ثمة جانب أشد خطورة، وهو انفلات الوضع الأمني في مختلف المناطق اللبنانية من العاصمة إلى الأطراف، حيث تنتشر مظاهر السلب والقتل والإجرام بصورة غير مسبوقة، وبأساليب إجرامية مبتكرة وجديدة في المجتمع اللبناني، ما يشير إلى نمط وسلوك إجرامي لم يظهر من قبل في المجتمع اللبناني، وهو نتاج سلوكيات وعادات وافدة مع النزوح واللجوء. وما عزز تلك المظاهر القاسية عملياً هو الوضع الاقتصادي المتدهور الذي زاد من منسوب الإجرام المجتمعي، وبات مشكلة كبرى في حد ذاتها تستلزم وسائل خاصة لمعالجتها سريعاً، لا سيما أن هذا الوضع ترك آثاراً في قطاعات أخرى كالتعليم، ومستوى الفقر، ومجمل العلاقات الأُسرية والمجتمعية.

 في ظل هذا الخواء القاتل من الطبيعي أن تُطرح أسئلة مخيفة متصلة بطبيعة التركيبة الاجتماعية اللبنانية ومستقبلها في ظل كيان سياسي فقد دوره وحتى طبيعة وجوده في ظل تغير ديموغرافي هدد الكيان والتركيبة التي بُنيت في الأساس على أُطر غير صلبة، ما يطرح تساؤلات من نوع آخر حول جدوى وجود الكيان في محيطه العربي، والإقليمي، والدولي.

 على أي حال من الأحوال، من الصعب النظر إلى هذه الفراغات المتتالية في بنية ما سُمي بالتركيبة اللبنانية الفريدة، بمعزل عن ظروفها الموضوعية لجهة المتغيرات العربية والإقليمية المحيطة إبّان العقدين المنصرمين، وما يزيد الطين بلة الظروف الضاغطة نفسها، وغياب الاهتمام بظروفه بوصفها خياراً وأولوية بين الدول الفاعلة أو المهتمة تاريخياً، بل إن التدقيق في سياسات تلك الدول يُشعر بأن ثمة تخلياً واضحاً، ما زاد الأمور تعقيداً، والأنكى في كل تلك المظاهر والظروف كيفية تعاطي الأطراف اللبنانية مع واقعها المزري، ودوام تعليق الآمال على الظروف الخارجية لإيجاد الحلول ولو بعد حين.

 من الواضح أن تلك الفراغات وصلت إلى مستويات مدمرة وقاتلة، والأنكى من ذلك أن طرق إعادة هيكلة المؤسسات الدستورية والمرافق العامة تبدو مغلقة، وغير متاحة، وبالتالي ثمة غيوم سوداء وغربان تُجيد النعيق على وضع لبنان الكارثي للأسف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4f2eecn5

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"