في العام 1976، بعد اندلاع الحرب الأهلية في بلاده بعام واحد، غادر إلى فرنسا.. ترك عمله الصحفي في جريدة «النهار» في بيروت وهو في نحو السادسة والعشرين من عمره، شاب خجول، وصحفي بار، وفي داخله كاتب يوجّهه عقله إلى ثقافة المقاربة بين الهويات والحضارات. وربما يعود ذلك إلى جذوره.. جدّته من ناحية والده تركية، وفي عروقه أيضاً خليط دماء كلّها حرّة ونظيفة، بدءاً من والده رشدي المعلوف وانتهاء به أمس الأول بهذا التعريف العالمي: أمين معلوف السكرتير الأبدي للأكاديمية الفرنسية، بانتخاب إجماعي إذا حذفت منه (شبه إجماعي) ب 24 صوتاً لأمين معلوف مقابل 8 أصوات لمنافسه جان كريستوف ريفان، الروائي والدبلوماسي الفرنسي الذي لا يستهان به هو الآخر، ولكن ابن لبنان كان ابن العالم. وبنت لبنان السيدة ريما عبد الملك وزيرة الثقافة الفرنسية، صافحته ووجهها كلّه ابتسامة.. وقالت له: «أنت رمز رائع لكل المتكلمين بالفرنسية عبر العالم».
غير أن صاحب صخرة طانيوس، وسمرقند، وليون الإفريقية، لم يكن فقط رمزاً رائعاً في الفرنسية، بل، في العربية أيضاً، وثقافتها اللغوية والتاريخية والجمالية، وهو حين غادر لبنان إلى فرنسا كان أصلاً يحمل فكرة ومشروعاً ومستقبلاً. الفكرة والمشروع والمستقبل بالنسبة لكاتب مثل أمين معلوف لا يمكن أن تتحقق معاً، وبكرامة، في بلد تتنازعه الطائفية، والمذهبية، وتجار السياسة.
ربما لهذا السبب الثقافي بالتحديد بحث أمين معلوف في ثقافة الهويات، وأعطى الكثير من وقته خارج الأدب للفكرة التي تعين الشعوب والحضارات على القربى والصداقة والحوار.
تفرّغ للكتابة، إذاً، وسوف يأخذه هذا الخيار الوجودي المصيري إلى عضوية الأكاديمية الفرنسية في العام 2011، وقبلها في العام 1993 وضع على صدره وسام جائزة الغونكور، الأرفع بين الجوائز الفرنسية والأوروبية عموماً، بل، لعل الغونكور هي الدرب الممهدة لنوبل.
لم يكن أمين معلوف، العربي اللبناني، المسيحي، المدافع ببساطة وتربية رفيعة عن السلام وحوار الحضارات يفكر بالجوائز، بل، كان يكتب في مدينته.. مدينة أمين الهادئة الوادعة، بلا فوضى، وبلا صخب أهلي أو عالمي.
قبل سنوات أجرى معه الروائي الصديق شاكر نوري حواراً مهّد له بهذه المقدمة: «كل شيء كان يتحرك في منزل أمين معلوف، ويعج بالروح والحيوية، وفي هذه الأثناء، وبينما كنا نتحاور خرجت قطة رمادية اللون من شرفة النافذة المطلة على الشارع..»، ولهذا الحوار قصة أخرى، أنقلها إليك صديقي القارئ غداً.. حول هذا العربي الذي هو الآن في مستوى وزير ثقافة لأوروبا كلّها.