الشارقة: أشرف إبراهيم
في حياة كل شاعر محطات يمر بها أثناء عبوره إلى ظلال المعرفة ومن ثم شحن مخيلته ليتهيأ للحبر والورق، وفي كل تجربة يخوضها في القراءة تتفتح أمامه دروب جديدة، ويرى الذي لا يراه الناس، وإذا كانت مصادر المعرفة للشاعر تحديداً متنوعة، فإنه قد يكون في قراءة أشعار الأمم الأخرى ما يملأ شغفه للبحث عن إبداع آخر لم يعهده، حتى وإن كانت شجرة الشعر العربي متعددة الفروع وغنية بالثمار وممتدة الظلال أيضاً، فهل حقاً يقرأ الشعراء ما تبسطه الترجمة عن لغة الآخر وفنونه في التعبير؟ بخاصة أن المكتبة العربية غنية بترجمات لا حصر لها عن الشعر وغاباته الكثيفة من كل أنحاء العالم، فما السحر الذي يكمن في أن يعرف الشاعر لغة آخر عبر وسيط يلملم خيوط الكلمات ويترجمها بما يثري النص ويمنحه مساحة واسعة من الألفة والجمال.
من الطبيعي أن تتسع دائرة الشاعر، وأن يحاول خوض بحار تدفعه للمغامرة تفضي في النهاية إلى التجريب، والبحث عن صور أخرى للخيال، باعتبار أن الشعر فضاء لا نهائي من الدهشة والابتكار في اللفظ والمعنى والشكل، والمغايرة في البناء، وإذا كان الشعراء يقرؤون الإبداع الشعري المترجم ويتنسمون عطره في بساتين المعرفة، فماذا عن رأيهم في هذا الشعر؟ وما مبتغاهم الحقيقي من التزود بما يفيض به من سرد مختلف عن إشكاليات ومضامين الشعر العربي الأصيل؟
في هذه السطور يعبر عدد من الشعراء عن وجهة نظرهم في مسألة قراءة الشعر المترجم، والأسباب التي تدعوهم إلى تعقب مجازاته وتحليقاته، ومن ثم يذكرون رأيهم في ما تلتهمه عيونهم من صفحاته، ومدى استفادتهم من أشكاله المتنوعة، رغم قولهم أحياناً أن ترجمة الشعر مهمة شاقة أو شبه مستحيلة؟
طبيعة خاصة
الشاعر أحمد العسم يقرأ أشعاراً مترجمة بكثافة ويحاول في كل مرة أن يتخير كتباً شعرية مترجمة ذات قيمة، وأن يبحث عن الكتاب الذي يحمل طابعاً قريباً من روح الشاعر المترجم عنه، خصوصاً أن الشعر يحمل طبيعة خاصة، وليس من السهل تقبل أي ترجمة للشعر، مبيناً أن ترجمة الشعر في الواقع الأدبي أمر مستمر لا بد منه، خاصة أن شعر الأمم الأخرى يتميز بتقنيات فنية أخرى، وأساليب مختلفة عن الشعر العربي في المضمون والشكل والتوزيع الجمالي، وأنه منذ أن كانت الترجمة والشعر له نصيب من هذه الحركة المستمرة التي بدورها أغنت العلاقة بين الاتجاهات الفكرية للشعراء لما ينطوي عليه الشعر المترجم من خواص تعبيرية وأشكال فنية فيها جمال ومتعة.
ويرى العسم أن الشاعر الذي لا يقرأ شعراً مترجماً ينقصه الكثير، لأنه حين يطالع ترجمات للشعر من بلدان غربية، فإنه يتعرف إلى أساليب ذات جمال في طريقة التناول مهما كانت الترجمات غير دقيقية وتمثل خيانة للنص، وينصح كل شاعر لا يجيد لغات أجنبية بأن يقرأ ويطالع ويبحث عن الترجمات الأصيلة التي لا تتعدى النص بشكل أو بآخر، أو تحاول إعداد نظير له، فالشعر حين يترجم بشكل قريب من روح كاتبه الأصلي يكون له مذاق آخر، وهو يقرأ الشعر الإنجليزي المترجم، والألماني والروسي والفرنسي أيضاً، ويستمتع كثيراً بفضاءات التراجم المتميزة، مشيراً إلى أن ذلك يثري الشاعر ويجدد لغته ويجعله يبحث عن المغايرة.
بحث واستقصاء
ترى الشاعرة الهنوف محمد أن قراءة الشعر بلغته الأصلية هو القيمة الحقيقية، ومن ثم الوصول إلى ما يريد الشاعر دون وسيط، لكن في ظل عدم إتقان الكثير من الشعراء بعض اللغات الحية، فإنه يتعذر عليهم الاطلاع على أبرز شعراء العالم قديماً وحديثاً، ومن ثم التعرف إلى تجاربهم الشعرية بشكل حقيقي، ومن الطبيعي أن يحاول الشعراء الذين ليس لديهم معرفة باللغات الأخرى أن يخوضوا تجربة قراءة الشعر المترجم، وهنا تتعاظم المسؤولية، إذ إنه من الأهمية بمكان أن يلجأ الشعراء إلى تراجم أمينة مشهود لها بالكفاءة، فالشعر بالأساس لا يترجم، وهو أمر يحتاج في كل الأحيان إلى بحث واستقصاء وتمعن حتى تتولد الخبرة لدى الشاعر العربي الذي لا يمتلك المعرفة بلغة الآخر في أن يتعرف إلى الشعر الأجنبي من باب ما ينقل عنه. وتلفت إلى أنها تقرأ الكثير من الأشعار الغربية بلغتها الأصلية، خاصة أنها مترجمة ولديها دراية واسعة بشعراء لهم مكان في الشعر العالمي، وتقرأ الشعر المترجم، خاصة من اللغات التي لا تجيدها، فضلاً عن أنها في كثير من الأحيان تطالع بعض الترجمات العربية للأشعار الأجنبية من باب الفضول والتعرف إلى مدى قوة المترجم، وتؤمن بأن أقرب المترجمين للشعر العالمي هم الشعراء، على الرغم من أنها على قناعة بأن جماليات الشعر لا حدود لها حين يُقرأ بلغته الأصلية، مؤكدة أنه في كل الأحوال من الضروري أن يطلع الشاعر العربي على تجارب الشعراء العالميين وأن لا مناص عن الشعر المترجم لمن لا يجيد لغة أخرى.
جذور ممتدة
الشاعر إسماعيل البلوشي الدولي يقرأ الشعر المترجم بصورة متكررة لأنه على قناعة بأنه من حق أي شاعر أن يتعرف إلى التجارب الشعرية الثرية في العالم بعيداً عن التعصب للغة الأم، وما تحمله من جماليات وجذور ممتدة وسحر فائض يتمثل في تعدد معاني مفرداتها، وما تمتلكه من قوة في التعبير، ويلفت إلى أن الشاعر الذي يقرأ أشعار الأمم الأخرى يكتب بلغته العربية، وبأساليبها ومجازاتها وتراكيبها التعبيرية، لكن من خلال التعمق في استكشاف الآخر وأسلوبه وأفكاره واتجاهاته المغايرة، وهذا مطلوب، خصوصاً أن الكثير من التجارب الشعرية العربية المشهورة كونت ثقافة شعرية أخرى من خلال الاطلاع على الشعر المترجم المحلق في فضاءات العالم، وأنه لا غنى عن الترجمة في التعريف بالشعر الروسي مثلاً أو الياباني والإنجليزي والألماني والفرنسي وغيره، وأنه على يقين بأن ترجمة الشعر أمر صعب وأحياناً مستحيل، والأمر أشبه بوضع الشاعر في مختبر وإبراز نصوصه بشكل آخر.
حركة المعرفة
يدرك الشاعر فارس البلوشي أن الشعر حين يترجم يفقد الكثير من دلالاته، لأنه مهما بلغت دقة المترجم وقدرته على تقريب النص للقارئ، فإن هناك جماليات أصيلة تضيع، فالمترجم أمام حشد الصور والمعاني يقع تحت مسؤولية كبيرة أثناء النقل من لغة إلى أخرى، لكن لأن الترجمة جزء من حركة المعرفة، وأسهمت في نقل العلوم والآداب الأخرى غير الشعرية، فإنه من الطبيعي أن يخضع الشعر للترجمة، وأنه لا داعي للجمود ورفض ترجمة الشعر، لأننا نعيش في عالم قائم على الترجمة من أجل معرفة الآخر، مشيراً إلى أنه يقرأ ترجمات شعرية منقولة عن لغات أخرى، ويحاول أن يختار مترجمين أكفاء لهم باع في هذا المجال حتى لا تذهب قراءاته سدى، وأنه على يقين بأن هناك استفادة حقيقية في قراءة الشعر المترجم، لأنه ينمي ملكات الشاعر، ويقربه من تجارب غائبة عنه، مؤكداً أنه إن كان لا بد من ترجمة الشعر، فلا بد أن يكون المترجم شاعراً يدرك جيداً مسؤولية النص وأهمية أن ينقل كما هو دون تغيير.
أفكار جديدة
يؤمن الشاعر أحمد المطروشي، بأن قراءة الشعر المترجم جزء من الثقافة الإنسانية، وأن أي شاعر يريد أن يتطور، فإنه عليه أن يطالع المدارس الشعرية الأجنبية كافة، وأنه بشكل شخصي يبتعد عن الترجمات الرديئة في الشعر لأنها تقتل النص الأصلي، بخاصة أن المكتبة العربية أصبحت تعج بترجمات كثيرة لشعراء من مختلف التجارب العالمية، لكن المشكلة تكمن في ضعف بعضها وابتعادها عن الدقة، وهو ما يفقدها رونقها، لذا يتحرى جيداً طبيعة الترجمة ويسأل بعض الشعراء المخضرمين عن أفضل الترجمات، حتى يتسنى له قراءة شعر مترجم حقيقي خالٍ من المحسنات البديعية واللغة الضحلة أحياناً، موضحاً أنه يحب أن يتزود من الشعر الفرنسي الذي يحمل طابعاً خاصاً في محيط الشعر العالمي، فضلاً عن قراءاته ترجمات أخرى لشعراء أفارقة يكتبون باللغة الإنجليزية، وأنه يعيش مع الكتب الشعرية المترجمة بروح أخرى، حتى يتماهى مع الآخر ويتمعن في تجربته بوعي وحب للمعرفة، مشيراً إلى أن هناك إفادات كثيرة يحصل عليها الشاعر العربي من جراء قراءة الشعر المترجم، تتمثل في انفتاحه على أفكار جديدة ولغة مغايرة وخيال غير معتاد في الشعر العربي.
قضايا مثارة
يبين الشاعر والناقد محمد نور الدين، أنه على الرغم من المقولة الشهيرة بأن الشعر لا يمكن ترجمته، وأنه من الخيانة محاولة إعادة كتابة نص شعري بلغة أخرى، فإن الشعر المترجم له وجود كثيف في عالمنا العربي، وهناك ترجمات ينظر إليها بعين الاعتبار، وأن الشعراء بشكل عام يقرؤون الشعر المترجم حتى الذين يتقنون بعض اللغات، لأنه لا يمكن لأحد أن يتقن كل لغات العالم، مشيراً إلى أنه يدرك أن ترجمة النص الشعري تفقده هويته، بخاصة أن اللغة البديلة مهما كانت جميلة، فإنها تظل غير قادرة على احتواء نص الشاعر الأصلي، لكن في ظل التبادل الثقافي والمعرفي، أصبح لزاماً على الشاعر أن يقتفي أثر شاعر آخر من قطر آخر، وأن شجرة الشعر العالمي قديماً وحديثاً غنية بالجمال، ولذلك من الطبيعي أن تكثر الترجمات، وأن يتلقف الشعراء التراجم المختلفة ويقلبوا النظر فيها، حتى يتسنى لهم معرفة التراجم الدقيقة من التراجم الرديئة.
ويلفت نور الدين إلى أنه يقرأ ترجمات شعرية شرقية وغربية بشكل مستمر، ويستمتع ببعض الترجمات، وإن كانت أيضاً غير قادرة على نقل النصوص بشكل حقيقي، لكنه لا يهمل هذا الجانب، ويوضح أن ترجمة قصيدة النثر العالمية للعربية أسهل قليلاً من ترجمة الأشعار الموزونة والمقفاة في اللغات العالمية الحية، لكنه أيضاً على قناعة بأن ترجمتها لن تكون مثل قراءة النص الأصلي بلغته التي كتب بها، لافتاً إلى أن إشكاليات ترجمة الشعر متعددة، وأنه مهما كثرت هذه الإشكاليات، فإنه لا يمكن التخلي عن قراءة الشعر المترجم، أو اقتفاء أثره، لأنه يعطي للشاعر دفقة شعورية أخرى، ويبعث فيه روحاً أخرى حين يغوص في مكنوناته ويتأمل طبيعته المغايرة عن الشعر العربي، وليس من الضروري تحميل المترجمين فوق طاقتهم، إذ إنهم يحاولون الإسهام في التعريف بالشاعر الآخر.