تثوير معدل واتجاه التغيير التكنولوجي

23:00 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*

ترى دراسات اقتصادية أن تطوير قطاع مكرس لإنتاج السلع الرأسمالية كان سبيلاً ذا أهمية خاصة أمكن للإنتاج الاقتصادي أن يصير متخصصاً من خلاله، في ما بعد الثورة الصناعية. وأن الكثير من دينامية النمو الصناعي قد حدثت بالفعل في هذا القطاع. وقد بذل عالم الاقتصاد ناثان روزنبرج، جهداً كبيراً من أجل تطوير الفهم للميكانيكا الدقيقة لهذه العملية، وذلك من خلال سلسلة من الدراسات التاريخية للإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر. وكانت فرضية روزنبرج أن: التغيير في طبيعة تصنيع السلع الرأسمالية هو الذي أعطى الدفعة الهائلة لتطوير الرأسمالية المبكرة في الولايات المتحدة. وقد تمثل هذا التغيير خاصة في تنامي التركيز على إنتاج سلع الإنتاج المعمرة مثل الماكينات والمعدات والعدد، وغيرها من الثوابت التي صارت بمثابة لبنات البناء في التصنيع اللاحق، للسلع النهائية، التي تقدم للمستهلك. وقد مثل هذا الأمر صيغة شديدة الخصوصية لتقسيم العمل تحتوي في داخلها خصائص مهمة للتغيير الحركي. وقد احتلت ماكينات صنع العدد دوراً إستراتيجياً لأن إنتاجها قد صار محلاً لتغييرات تكنولوجية عديدة، ولكونها كانت تستخدم أيضاً مع مجموعة واسعة من القطاعات اللاحقة (بمثل ما كانت تستخدم في إنتاج العدد ذاتها).

يؤكد روزنبرج أن ملامح ثلاثة لنمو تصنيع ماكينات إنتاج العدد كانت ذات أهمية مركزية: - التقارب التكنولوجي - التجزؤ الرأسي - الإبداع التعاقبي.

وإذا اجتمعت الملامح الثلاثة معاً فإنها قد أدت إلى تثوير معدل واتجاه التغيير التكنولوجي في القرن التاسع عشر. ويمكن أن ينظر إلى هذه الملامح باعتبارها خصائص حاكمة لعملية الإبداع في ما بعد.

بالنسبة للتقارب التكنولوجي: إن عملية التصنيع يمكن النظر إليها باعتبارها واحدة من عمليات التخصص والتنوع المتناميين للإنتاج الاقتصادي أفقياً، (إنتاج سلع وخدمات جديدة) ورأسيا (رسملة العملية الإنتاجية) على حد سواء. ومع هذا فإنه يغلب إغفال الحقيقة التي تفيد بأن عدداً من الصناعات «الجديدة» تستخدم عمليات إنتاجية متشابهة بصورة عامة، وتقوم على مصادر متعددة المراحل للطاقة المحركة. ومن هنا كان المشترك على سبيل المثال، بين تصنيع ماكينات الخياطة، والدراجات، والغلايات، والسفن، والسكك الحديدية، والسيارات، ومعدات التسليح، وجميعها تتطلب ماكينات تدار بالطاقة من أجل أداء سلسلة (صغيرة نسبياً) علاوة على أن العمليات الإنتاجية لهذه الماكينات تواجه مشكلات فنية متشابهة. ومن هنا فإن التجمع غير المتجانس لبعض الصناعات، من وجهة نظر المستهلك النهائي، يكون متجانساً بمعايير التكنولوجيا المتضمنة في الماكينات المطلوبة للإنتاج. وقد عرف روزنبرج هذه الخاصية بأنها صورة للتقارب التكنولوجي، كما حاول التدليل على أنها كان لها تداعيات مهمة سواء على تطوير أساليب (تقنيات) جديدة، أو على نشرها فور تطويرها.

أما التجزؤ الرأسي فهو العملية التي قامت عن طريقها شركات متخصصة لإنتاج ماكينات العدد كانت واحدة من عمليات التجزؤ الرأسي التي تحدث عندما «تمتد» هذه الشركات عن «شركات أمهات». ويغلب على الصناعة النامية أن تلتزم في مستهل حياتها بالقيام بسلسلة كاملة من العمليات الإنتاجية التي تنتظم تصميم وتطوير السلع الرأسمالية الضرورية. ويغلب على الصناعات الناشئة أن تكون غريبة على النظام الاقتصادي المستقر.

وتتمثل وجهة نظر روزنبرج في أن التجزؤ الرأسي صار ذا دلالة عند هذه المرحلة من التصنيع في الولايات المتحدة، على وجه التحديد بسبب النمو المتزايد لعدد كبير من الصناعات التي كانت متقاربة تكنولوجياً. ومع التقارب الصناعي تم السماح بدرجة من التخصص عند مستويات «أعلى» للإنتاج لم تكن ممكنة بغير هذا. وحيث إن «تقسيم العمل محدود بمدى اتساع السوق» فإن الدرجة غير المسبوقة للتخصص الذي تطور في قطاع إنتاج الماكينات في الولايات المتحدة تدين بالكثير إلى التقارب التكنولوجي الذي عمل على توسيع الطلب على المنتجات الفردية النهائية.

أما بالنسبة إلى الإبداع التعاقبي، فطالما أن قطاع ماكينات صناعة العدد قد صار، في واقع الأمر، مركزاً لتعليم متواصل وتحسينات تكنولوجية مستمرة، من خلال عدم توازن فني، وعن طريق تطبيقات هندسية في صناعات تضع عيونها على العملاء. ولم يأل روزنبرج جهداً في سبيل التأكيد على أن أي تغيير تكنولوجي يتعلق بإنشاء أو استخدام سلعة رأسمالية معقدة مثل ماكينة صنع العدد سرعان ما يهيئ الظروف للمزيد من التغيير المتمثل، عملياً، في سلسلة لا نهائية من التحولات الفنية التي تدين للإدراك الهندسي للميكانيكي الماهر أكثر مما تدين للضغوط الاقتصادية التي تنشأ عن وضع السوق.

وتستنج تلك الدراسات الاقتصادية أن إنتاج السلع الرأسمالية عامة، وإنتاج ماكينات صناعة العدد خاصة، كان بمثابة السبيل الرئيسي الذي تم من خلاله إدخال التغييرات التكنولوجية إلى الاقتصاد الصناعي الناشئ، كما أن النظرات النافذة التي قدمها روزنبرج لا تزال على القدر نفسه من الأهمية حتى الآن. ولربما كانت تكنولوجيا الإعلام واحدة من تلك الحالات ذات الأهمية. وقد حاول روزنبرج أن يبرهن على أن البلدان الفقيرة لن تحوز التكنولوجيات الملائمة لأغراضها الخاصة إلا من خلال خلق قدراتها الذاتية على تصنيع السلع الرأسمالية.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/49273tay

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"