عادي
صعود ملحوظ للأحزاب «المتطرفة» في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا

اليمين المتشدد.. الخطر القادم على أوروبا

01:09 صباحا
قراءة 8 دقائق

د. أيمن سمير

كانت «الأزمات» على الدوام هي «البيئة الحاضة» لترعرع ونمو أحزاب «اليمين المتطرف»، ليس في أوروبا فقط، بل في الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية، وحتى في بعض الدول الآسيوية، «فالكساد العظيم» في ثلاثينات القرن الماضي، كان هو الدافع القوي، والمنصة السياسية التي اتكأت عليها الأحزاب النازية والفاشية في النصف الأول من القرن العشرين

ولهذا وجدت الأحزاب اليمينية الأوروبية «فرصاً هائلة» لحشد الأنصار، وتعبئة القاعدة الانتخابية، والعودة إلى شعارات قريبة من النازية والفاشية في ظل الأزمات التي عاشها العالم منذ نهاية عام 2019، خاصة الارتدادات السلبية لجائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وما تمخض عنهما من زيادة في معدلات التضخم، ومشاكل في سلاسل الإمداد، وتراجع حاد في معدلات النمو الاقتصاد، فضلاً عن تهافت المواطن الأوروبي على الخدمات والمنح والمزايا الحكومية الأوروبية التي بدأت تتراجع بسبب كل تلك الأزمات المتلاحقة

الصورة

لم تضيّع الأحزاب اليمينية والشعبوية الأوروبية الوقت، بل طرقت الحديد وهو ساخن، وحمّلت هذه المشاكل والأزمات للمهاجرين واللاجئين والمسلمين، تارة بادّعاء أنهم يسرقون الوظائف، لأنهم يقبلون بمرتبات أقل من المواطن الأوروبي، وتارة أخرى بأن «ثقافة المهاجرين» لا تتفق مع الثقافة الأوروبية، ومن ثم يتوجب وفق رؤية هذه الأحزاب اليمينية طرد المهاجرين واللاجئين والمسلمين، بل ومنع أي مهاجر جديد من الوصول إلى «فردوس الاتحاد الأوروبي»، سواء بالدعوة إلى عمل «مخيمات» خارج حدود الاتحاد الأوروبي، أو «تشكيل قوة بحرية» تحمل أسماء مثل «صوفيا وإريني» في البحر الأبيض المتوسط، لمنع المهاجرين من الوصول إلى دول البوابات الأوربية، وهي اليونان وقبرص وإيطاليا وإسبانيا، ووصل الأمر إلى قرار من الحكومة البريطانية بترحيل اللاجئين إلى رواندا، من بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي بسبب ادّعاء الأحزاب اليمينية والشعبوية بأن المهاجرين «يحتلون» المملكة المتحدة.

الصورة

أنصاف الحقائق

ونتيجة للشعبوية، والأفكار اليمينية المتطرفة وشديدة التطرف التي تقوم على «أنصاف الحقائق»، والدعاية الرمادية، زادت «قاعدة المقبولية» للأحزاب اليمينية الأوروبية لدرجة أن حزب «إخوة إيطاليا» اليميني المدعوم من حزب «رابطة الشمال» اليميني أيضاً، أصبحا يقودان السياسة الإيطالية منذ عام 2022، وهناك توقعات أن اليمين المتطرف سوف يحصل على مقاعد غير مسبوقة في انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجرى في منتصف العام الجديد 2024، ولم يكن مستغرباً أن تسمع في الشوارع الإيطالية أن الارتفاع القياسي في درجات الحرارة خلال الصيف الماضي، لم يكن سببه التغيرات المناخية، بل «الحرارة التي حملها المهاجرون معهم في المراكب والسفن القادمة في البحر المتوسط».. فأين وصلت الأحزاب اليمنية في أوروبا، سواء في الشارع، أو دوائر الحكم؟ وما هو المدى المنتظر للتغيرات التي يمكن أن يفرضها نفوذ الأحزاب اليمنية في السياسة الأوروبية؟ وهل يمكن أن يكون لكل ذلك «تأثير سلبي» في العلاقات الأوروبية مع العالمين العربي والإسلامي؟

الصورة

صعود غير مسبوق

شهدت أوروبا خلال عامَي 2022 و2023 صعوداً غير مسبوق للأحزاب اليمينية في كل مناطق أوروبا، سواء في الغرب والشرق والوسط، وحتى في الشمال لدى الدول الإسكندنافية التي كانت دائماً «الحصن المنيع» ضد الأحزاب اليمينية التي باتت تسوّق لنفسها بأنها تتشابه مع أحزاب عريقة على المستوى الدولي، مثل حزب المحافظين البريطاني، أو الحزب الجمهوري الأمريكي،

ورغم عدم وجود اتفاق حول حدود ومعاني الأحزاب اليمينية المتطرفة، إلا أن هناك سلسلة من الأدوات والأهداف المشتركة لهذه الأحزاب، فجميعها تشتكي من المهاجرين واللاجئين، كما تتحدث بشكل دائم عن وجود «تهديد» للهوية الوطنية من مجموعات عرقية أو ثقافية تراها دائماً تهدد المكونات الوطنية، وفي أفضل الأحوال تراها مختلفة في نزعتها الفكرية والثقافية عن أبناء الدولة الأصليين، هذه الأسباب بالضبط، كانت وراء تصويت البرلمان الفرنسي، هذا الأسبوع، لمصلحة قانون «الهجرة الجديد» الذي يسمح بطرد بعض المقيمين على الأراضي الفرنسية، بمن فيهم الذين قدموا ضمن برنامج «لم شمل العائلة» الذي ظل من أقدس الحقوق في كل قوانين الهجرة الأوروبية، وكل ذلك ضمن موجة من «الوطنية غير الصحية»، أو «النزعة القومية خارج السيطرة» التي باتت تجتاح الدول الأوروبية.

وفي ظل هذه البيئة المسمومة ضد المهاجرين والأجانب، لم يكن مستغرباً أن يفوز حزب الحرية اليميني في هولندا بقيادة «غريت فيلدرز»، بعدد قياسي من المقاعد في البرلمان الهولندي، بلغ نحو 37 مقعداً لأول مرة، متفوقاً بذلك على الليبراليين واليساريين معاً، والذين حصلوا على 25 مقعداً فقط، بل وتغلب على حزب رئيس الوزراء الحالي، مارك روته، الذي يحكم منذ سنوات طويلة، وحصل على 24 مقعداً فقط، وبغضّ النظر عن قدرة «حزب الحرية» على جمع 76 مقعداً لتشكيل الحكومة الجديدة، فقد باتت أفكار الحزب تنتشر لدى شريحة كبيرة من الناخبين.

السيناريو ذاته تكشفه استطلاعات الرأي في ألمانيا وفرنسا، والتي تقول إن حزب «البديل من أجل ألمانيا»، وهو حزب شديد التطرف بات الحزب الثاني في استطلاعات الرأي الألمانية بعد حزب «الاتحاد الديمقراطي المعارض»، الذي كانت تقوده المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ويتفوق حزب البديل من أجل ألمانيا على كل أحزاب الائتلاف الألماني الحاكم، بما فيها «الحزب الاتحادي الاشتراكي الاجتماعي» الذي يتزعمه المستشار الألماني أولاف شولتز، وتكشف استطلاعات الرأي الحديثة أن «حزب البديل من أجل ألمانيا» قد يرجّح كفة الأحزاب اليمينية في البرلمان الأوروبي، لتصبح «الكتلة الأولى» عندما تجرى انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو ويونيو المقبلين.

الصورة

ولا يختلف المشهد في فرنسا عن المشاهد الألمانية والهولندية، فالجميع بات على قناعة كاملة بأن قانون الهجرة الجديد الذي أقره البرلمان الفرنسي في 20 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، هو من «بنات أفكار اليمين المتشدد»، خاصة حزب «الجبهة الوطنية» بقيادة مارين لوبن، التي تعطيها استطلاعات الرأي لأول مرة تفوق على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وكل هذا ليس معزولاً عن نتائج الانتخابات الإسبانية التي فاز فيها اليمين بعدد غير مسبوق من المقاعد منذ نهاية ديكتاتورية فرانكو 1975، أي قبل نحو نصف قرن، فمن يراجع ترتيب الأحزاب في البرلمان الإسباني سوف يتأكد له أن «الحزب الشعبي» اليميني بقيادة، ألبرتو نونييس فيخو، حصل على «الكتلة الأكبر» في الانتخابات النيابية المبكرة التي شهدتها إسبانيا هذا العام، بعد أن نال الحزب الشعبي 136 مقعداً، أي أكثر ب47 مقعداً مقارنة بالنتيجة التي حققها عام 2019، فيما حصد الاشتراكيون 122 مقعداً، كما فاز «حزب فوكس» وهو الأكثر يمينية بين الأحزاب الإسبانية على عدد أكبر من المقاعد، لكن الخبر الإيجابي للإسبان هو نجاح رئيس الوزراء الحالي، بيدرو سانشيز، الذي يقود الوسط، والاشتراكيون في تشكيل «تحالف جديد» للحكومة، ما يؤكد أن تشكيل حكومة لليمين في إسبانيا أصبح فقط «سيناريو مؤجلاً»، بموجب «لعبة التحالفات» التي أنقذت إسبانيا من الحكم المباشر من جانب الأحزاب اليمينية التي كانت تحتاج لنحو 5 مقاعد فقط، لتشكيل حكومة متشددة

تهاوىي «حصن الاعتدال»

كان ينظر دائماً لدول شمال أوروبا، خاصة الدول الإسكندنافية باعتبارها «الحصن الحصين» للأفكار الاجتماعية والاشتراكية المعتدلة، والتي تمنع أصحاب الأفكار اليمينية والنازية من الانتشار، لكن القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات الأخيرة، في كل من فنلندا والسويد، تقول غير ذلك، فحزب الديمقراطيين القومي السويدي المعارض، الذي ينظر له الكثيرين من الأوروبيين على أنه «حزب نازي»، بدأ يحقق نتائج كبيرة في العقد الأخير، بعد أن فاز في انتخابات 2010 بنحو 5.7 % من الأصوات، ثم ارتفعت النسبة إلى 17.5 % عام 2018، وتتوقع استطلاعات الرأي أنه سيفوز بأكثر من 23 % في الانتخابات القادمة.

أما في السويد التي كانت بمثابة واحة المهاجرين، بعد أن أصبحت حتى عام 2016 أكثر الدول الأوروبية التي تستقبل اللاجئين المنفردين، تحولت منذ الهجوم الإرهابي في استوكهولم عام 2017 ناحية اليمين، واليمين المتطرف، ففي عام 2018 حصل «الحزب الديمقراطي اليميني» الذي تأسس منذ عام 2018 على نحو 18.5 % من إجمالي أصوات الناخبين، وهو حزب يقف بالمرصاد ضد المهاجرين، ولا يرى أي «مساحة مشتركة» مع ثقافة المهاجرين، سواء كانوا مسلمين، أو غير مسلمين، وحصل هذا الحزب المتطرف في انتخابات 11 سبتمبر/ أيلو عام 2022 على المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية، وبهذا يكون «الفائز الأكبر» في تلك الانتخابات بعد أن حقق مكاسب جديدة لم يحصل عليها من تأسيسه قبل 40 عاماً، ما جعل الكتلة اليمينية تحصل مجتمعة، على نحو 49.5 % من إجمالي المقاعد في البرلمان السويدي الحالي، ليس هذا فقط، فقد تم تشكيل منظمات وتجمعات عابرة للحدود في المنطقة الإسكندنافية، تحت عنوان «حركة المقاومة الإسكندنافية» للدفاع عمّا تسميه القيم الأوروبية الشمالية، وهي حركة أسّسها «النازيون الجدد» في السويد عام 1997، وبات لها فروع في كل دول شمال أوروبا

ما أسباب تفوّق اليمين؟

أسباب كثيرة أدت إلى عودة وتوحش اليمين في أوروبا، ليس فقط بسبب الأزمات الاقتصادية والتداعيات الناتجة عن جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، لكن هناك مجموعة من الأسباب الأخرى، ومنها:

أولاً تغيير الأدوات والمسميات:

تخلى اليمين في أوروبا عن كل أدوات العنف، وأحياناً تقوم الأحزاب المتطرفة بطرد عنصر، أو اثنين، حتى تقول أإنها ضد التطرف الشديد، فهذه الأحزاب أدركت أن المواطن الأوروبي يريد التغيير، لكنه في ذات الوقت ضد كل أشكال العنف، كما نجحت الأحزاب اليمينية في توظيف بعض مظاهر العنف الفردية التي يقوم بها المهاجرون، للتدليل على أن ثقافة المهاجرين تختلف عن ثقافة الأوروبيين، وهذا ما عمل عليه اليمين في السويد، حيث استغل بعض أحداث العنف التي وقعت في الجنوب، خاصة في منطقة مالمو، ففي الوقت الذي لم تتجاوز نسبة تأييد الأحزاب اليمينية 25 % في العاصمة استوكهولم، إلا أنها حققت نتائج قياسية في المناطق الريفية والجنوبية التي شهدت أعمال عنف من بعض المهاجرين

ثانياً إعادة التموضع ومراجعة المواقف:

في السابق، كانت مواقف أحزاب اليمين تدعو بشكل صريح، إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن بعد الخروج البريطاني «البريكست»، والتداعيات السلبية لهذا القرار على المواطن البريطاني، عدلت الأحزاب اليمينية مواقفها لتدعو إلى تحسين أداء مؤسسات الاتحاد الأوروبي بدلاً من الدعوة لتفكيكها، أو الخروج منها، نفس الأمر ما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، فقبل الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/ شباط 2022 كانت الأحزاب اليمينية وقادتها، أمثال ماثيو سالفيني، ومارين لوبن، لهم علاقة قوية بالكرملين، والقيادات الروسية، لكن بعد هذه الحرب بدأت تلك الأحزاب بعملية واسعة «لإعادة التموضع» في علاقاتها مع الدب الروسي، حتى لا تفقد شعبيتها في الشارع.

ثالثاً طرح البدائل:

في السابق، كانت مشكلة الأحزاب الأوروبية أنها تكتفي بانتقادات حادة ولاذعة لأحزاب الوسط واليسار والأحزاب الاجتماعية، لكن في الآونة الأخيرة باتت تقدم بدائل عملية خاصة في المجالات الاقتصادية والخدمية، ما جعلها، لأول مرة، تقترب من يمين الوسط في القضايا غير الخلافية، وربما هذا ما دفع الأحزاب الأخرى من يمين الوسط للتقرب من اليمين، أملاً وطمعاً في الحصول على حصة من الدعم اليميني، وكان هذا واضحاً للغاية في تصويت جزء من نواب يمين الوسط الفرنسي، مع نواب حزب الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبن لمصلحة قانون الهجرة الجديد

رابعاً أخطاء الوسط واليسار:

لعل أبرز الأدوات التي ساعدت الأحزاب اليمينية في الصعود والحصول على مكاسب كبيرة خلال الأعوام السابقة هي «الأخطاء الفادحة» للأحزاب اليسارية وأحزاب الوسط، فعلى سبيل المثال، تراجعت شعبية التحالف الألماني الحاكم بشكل كبير، منذ رحيل المستشارة أنجيلا ميركل، وكشفت كل استطلاعات الرأي الأخيرة، عن تراجع شعبية قادة «الائتلاف الثلاثي الألماني» الحاكم، الذي يضم الحزب الاتحادي الاشتراكي الاجتماعي، بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتز، وحزب الخضر بقيادة وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، إضافة إلى حزب الأحرار التقدميين، وخير شاهد على هذا الأمر هو تراجع شعبية المستشار، أولاف شولتز، إلى رقم 14 في سلسلة أكثر الشخصيات قبولاً في ألمانيا خلال عام 2023.

المؤكد أننا أمام موجة جديدة من الشعبوية والصعود اليميني غير المسبوق، ما يستدعي تعديلات جوهرية في خطط، وخطاب أحزاب الوسط بجناحيها، اليمين واليسار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/np68rrdk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"