عندما صمت عبدالله السعداوي

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

كان الرجل الأكثر حضوراً بلحيته البيضاء الطويلة التي يتداخل فيها السواد قليلاً وثوبه الأبيض ذي الكم الفضفاض حتى خلته مرتعاً للفراشات التي تخرج منه وترفرف بأجنحتها على الحضور في كل وقفة له على المسرح. سألت عن اسمه فقيل لي عبد الله السعداوي.

كان ذلك في أول لقاء لي معه في أحد المسارح، ثم عرفته أباً حانياً ليس كمثله أب، وكم فوجئت حين عرفت أنه لم يختبر هذا الإحساس في الحياة الواقعية بشكله البيولوجي فكانت الصدمة كبيرة؛ إذ إن رجلاً مثله يعامل من حوله كأب متمرس في الحنان والمحبة ومعلم يريد أن ينقل كل خبرته وخبرة من سبقوه على مر العصور لمن يقف أمامه من غير أن يشعره بأنه يمارس عليه دور الأستاذ.

مسرحي له باع طويل في مجاله، أحبه القاصي والداني، وأجمع كل من عرف فنه بأهميته وبراعته حتى صار اسماً يضرب به المثل حين الحديث عن المسرح، ولربما صار اسمه أو يكاد رديفاً لاسم المسرح البحريني تحديداً.

في كل مرة يلقى أحد مريديه أو تلاميذه أو حتى أي عابر لا يعرفه شخصياً، تجده يرحب به بكل وقار وحنو حتى تظن أنه معجون من الطيب والكرم، ومازلت أتذكر كيف احتفظ بكتابه الأخير موقعاً لي لثلاث سنوات وكان في كل مرة يلقاني يسألني: بابا لمَ لمْ تأت للمسرح لأخذ الكتاب؟ وكنت أمازحه: لأنني أريده أن ينجب الكثير من الكتب، حتى وقّع لي نسخة أخرى بعد أن يئس من حضوري وأهدانيها قائلاً إنه يريدني أن أقرأه ثم نتحدث عنه.

هذا المسرحي الذي أحبه الجميع وكان مروره بالمكان يشبه مرور النسيم فتخضر بحضوره الأرواح وتشدو بالفرح.

لم يكن خبر وفاته سهلاً على أحد، كان كالصاعقة التي هدّت الجبال فوق رؤوس الجميع فأحنوا ظهورهم المثقلة بالحزن ليمر إعصارها ولكن دون جدوى، ولا أظن أن أحداً لن يتحسس ظهره كلما ذكر اسمه مجدداً متبوعاً بعبارة: يرحمه الله!

كم كنت كثيراً على هذه الحياة يا عبد الله، وكم كان صمتك الأخير موجعاً يهز الروح هزاً ولا يساقط منها إلا هشيمها. أيتمت كل مسرحيي البحرين ممن كانوا لا يرونك إلا أباً لهم، وأيتمتنا جميعاً في هذه الساحة الثقافية والإبداعية لأننا لم نجدك إلا أباً ومعلماً وصديقاً ودوداً وقوراً.

رحمك الله بقدر ما كنت طيباً مذهلاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/mr38fvrt

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"