مسلسل الفشل الأمريكي

00:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

نبيل سالم

لم يكن الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسي أو الخبراء الاقتصاديون ينطلقون من فراغ، عندما أجمعوا على أن انهيار الحضارات وأفول نجمها يعود بشكل كبير إلى عوامل داخلية، أبرزها وأكثرها تأثيراً انهيار منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية في هذه الحضارات، ما يؤدي في النهاية إلى فشلها في التعاطي مع التحديات، والاستجابة المُلحة لمقتضياتها، وهو ما يقودها في النهاية إلى التفكك والانهيار ومواجهة المصير المحتوم.

ويستند العلماء والباحثون في سردهم لعوامل انهيار الحضارات إلى عدة معطيات، أولها التاريخ، وثانيها العوامل الجيوسياسية، وثالثها مبدأ تعاقب الحضارات، كما يشبهون سقوط الحضارات بسقوط أحجار الدومينو، إذا ما سقطت الأولى، توالت الأحجار كلها بالسقوط، لتستحيل الحضارة إلى أنقاض وتغدو شيئاً من الماضي.

ويشير ابن خلدون إلى أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير، ما يقود في النهاية إلى الانهيار، أما البروفيسور والسياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون فيسلط في كتابه «صدام الحضارات وإعادة صناعة النظام العالمي» الضوء على واحدة من أهم النظريات الغربية في علوم السياسة، وإحدى الفلسفات التي تعد الأكثر تماسكاً وتطبيقاً على واقعنا المَعيش، خاصة مع تنامي التكنولوجيات الحديثة وتطورات الذكاء الاصطناعي، وتحكُّم الآلة في مختلف مجريات الحياة، حيث ترى هذه النظرية أن ما يحدث في العالم الآن، هو إعادة تكرار الأخطاء التاريخية، ودخول الدول العظمى في حالة حرب لا نهاية لها، سواء مُباشرة أو بالوكالة، بينما يئن فقراء العالم تحت وطأة غلاء المعيشة أو انعدم الغذاء أو تفشي الصراعات المسلحة.

في الحقيقة إن ما قادنا إلى هذه المقدمة هو تزايد الحديث عن انحسار الدور الأمريكي في العالم، وتراجع تأثير الولايات المتحدة عالمياً رغم كل ما تمتلكه من قوة وحضارة وإمكانات علمية وعسكرية هائلة، كما أن الكثير من الدراسات والأبحاث تؤكد أنه لابد للحضارة الأمريكية من أن تنهار خلال العقود القادمة، وذلك بسبب التوزيع غير العادل للثروة، وعدم كفاية الموارد الطبيعية، ومن هذه الأبحاث ما قدمته وكالة «ناسا» المتخصصة بلعوم الفضاء هي من قامت بالدراسة واستخدمت لغة الأرقام لتبين أن انهيار الأمم هو أمر حتمي ينطبق على كافة الحضارات عبر التاريخ، تماماً مثل موت النجوم!

ومؤخراً نقلت الأنباء عن ضابط المخابرات الأمريكي المتقاعد سكوت ريتر، إن الولايات المتحدة تخسر أمام روسيا في أوكرانيا وتتعرض لهزيمة في الشرق الأوسط، وليس لديها خطة بديلة. ويضيف أن «روسيا تنتصر وستواصل الانتصار في أوكرانيا. ليس هناك ما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله لوقف ذلك. وتتعرض الولايات المتحدة للفشل كذلك في الشرق الأوسط».

ووفقاً لريتر فقد بات موقف الولايات المتحدة مهزوزاً جداً، «الخطة (أ) لا تعمل، ولا توجد خطة (ب). ولذلك سيشهد العالم قريباً تعرض الولايات المتحدة لهزيمة استراتيجية».

والحقيقة لو نظرنا إلى أسباب التراجع الأمريكي بموضوعية نلاحظ أن أهم هذه الأسباب هو انهيار منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية والقيمية وفشلها في التعاطي مع التحديات، ما يقود إلى الجمود والعجز وفقد القدرة على التأثير.

ويرى الكثير من المحللين أن هناك عوامل كثيرة لعبت دوراً كبيراً في إضعاف الولايات المتحدة وتمزيقها من الداخل، أبرزها السياسات الاستقطابية في ظل الأعراف الديمقراطية المتداعية، وصراعات التيارات السياسية، ثم الحروب العرقية العنيفة، والحروب الثقافية، والنزعة الإقليمية، فضلاً عن الفجوة الآخذة بالاتساع بين الأغنياء والفقراء، وفقدان الأمريكيين للثقة في مؤسساتهم وحكومتهم وإعلامهم ونظامهم السياسي.

وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة «غالوب» الأمريكية تراجعاً كبيراً في ثقة الأمريكيين في الصحافة، ولاسيما بين الديمقراطيين.

فبحسب الاستطلاع، فإن 34% فقط من الأمريكيين ذوي التوجهات الديمقراطية يعتبرون أن الصحفيين في بلادهم يمتلكون معايير «عالية» أو «عالية جداً» من النزاهة والمهنيّة، وهو ما يمثّل تراجعاً بنحو 20 نقطة، مقارنة بنتائج الاستطلاع ذاته في 2018.

زد على ذلك ماتواجهه الديمقراطية الأمريكية من انتقادات جعلت الأمريكيين

أنفسهم يعتقدون أنها «في أزمة ومعرضة لخطر الفشل». وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما تواجهه واشنطن من تحديات من دول كبرى كالصين وروسيا، وانغماس الولايات المتحدة في صراعات دولية كثيرة، وفشلها في الكثير منها بسبب غياب استراتيجية مدنية وعسكرية متكاملة تستند إلى أهداف مدنية وأمنية بعيدة المدى أفقد الولايات المتحدة سمعتها كحليفٍ ثابت وموثوق يمكن الاعتماد عليه.

فعلى سبيل المثال لقد غزت أمريكا العراق عام 2003 لتدمير أسلحة محرمة لا وجود لها، واستمرت حربها هناك لثماني سنوات لاحقة، ثم غادرت بدون تحقيق واضح لأي من أهدافها، وما جرى في العراق تكرر في أفغانستان وليبيا وسوريا

وغيرها من الدول التي ساهم التدخل الأمريكي فيها بمفاقمة مشكلاتها بشكل خطير.

من كل ما سبق نستطيع القول إن الولايات المتحدة تعاني الكثير من الأزمات، لكن أبرزها وأخطرها هو انهيار منظومة قيمها الأخلاقية، كدولة كبرى وكحضارة أيضاً، وهو ما بذكر بالقول السائد:«إن الحضارات لا تموت قتلاً، وإنما تموت انتحاراً»!!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/mr3b9cjw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"