ليحيا الحفظ والتلقين

00:34 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في أحد اختبارات الجغرافيا فشل معظم الطلبة في أحد الصفوف التي تنتمي إلى أواخر المرحلة الابتدائية في تذكر العديد من العواصم العربية، وفشلوا في تعيين أسماء تلك العواصم على خريطة للوطن العربي، وبسؤال الكثيرين منهم تبين أنهم نسوا تلك العواصم التي لم يدربوا على حفظها كثيراً.

كان النقد الموجه في كتابات الكثير من المفكرين العرب لنظم التعليم لدينا، أن طرائقنا في التدريس تعتمد على الحفظ والتلقين بالدرجة الأولى، ولم تصدر حتى الآن دراسة تخبرنا إلى أي درجة لا تزال مدارسنا وجامعاتنا تنتهج هذا الأسلوب، خاصة أن العديد من المؤسسات التعليمية باتت تعتمد مناهج أخرى لا تركن إلى الحفظ.

كانت حجة من ينتقد أو يرفض هذا الأسلوب أنه لا يسمح للطالب بالابتكار، ويمنع العقل المحشو بالمعلومات من الإبداع، ولا يمنح الطالب فرصة للتفكير خارج ما يحفظه، ولكن هذا النقد غفل عن عدة أشياء، أولها أن معظم البشر حتى سنوات قريبة وإن كانوا قد تلقوا نظاماً يعتمد على الحفظ، فإن نخبة منهم استطاعت أن تبتكر وتبدع، وفي مختلف المجالات، فالعقل الذي يخلو من المعلومات لا يستطيع أن يقوم بمغامرة التفكير.

يرتكز الإبداع الفكري في الأساس على حصيلة الذاكرة من آراء متباينة ومختلفة، يقوم العقل بالفرز بينها للخروج بمركبات فكرية جديدة، وهي عملية يعرفها كل من يمارس عملاً ذهنياً يتعلق بالكتابة أو حتى الانخراط في نشاط فني ما، ومثال شاعرنا «أبو نواس» شهير في هذا السياق، فعندما ذهب إليه أحدهم يطلب مشورته في وسيلة تمكّنه من كتابه الشعر، لم يكن لديه من نصيحة إلا أن يطلب منه أن يحفظ أولاً ألف قصيدة ثم ينسى ما حفظه، ومطالبته هنا السائل بالنسيان من باب المجاز، حتى لا يقع في تقليد هذا الشاعر أو ذاك، أما الأساس فهو الحفظ.

لا يوجد إبداع من دون ذاكرة، والأمر لا يتعلق بالفكر والشعر وحسب، لكننا لا نتصور فناناً تشكيلياً لم يحتفظ في ذاكرته أولاً بعشرات الآلاف من صور للوحات فنانين آخرين، وربما الأمر نفسه يصدق على المهن التقنية من طب وهندسة...، ولا توجد ذاكرة من دون حفظ، بل وتلقين مكثف في مرحلة الطفولة.

الأمر لا يتعلق فقط بما تنتجه النخب، لكنه يرتبط بكل البشر، فمكونات الهوية الأساسية من دين وتاريخ وتربية وطنية أو قومية تزرع في داخلنا زرعاً من خلال الحفظ، وتلك المكونات ليست ضرورة لإنتاج شخصية سوية في علاقتها بأرضها وبيئتها وحسب، لكنها مكونات تضمن السواء النفسي للفرد أيضاً، وتمنحه قدراً من الانسجام مع العالم من حوله. ولنا أن نقارن بين نخب الماضي التي تلقت تعليمها حفظاً والنخب الجديدة، وبين آبائنا وما كانوا يحفظونه من آيات قرآنية وقصائد شعرية وما نحفظه نحن، أما الأجيال الجديدة التي مسحت التكنولوجيا الحديثة ذاكرتها فمأساتها تحتاج إلى قراءة أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4pz9u7xa

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"