وجهان للمعرفة

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

لا تكتمل الصحة الثقافية والمعرفية لأي أمة إلا بقدرتها على الوعي بامتداداتها في العالم، وأيضاً بامتلاكها معرفة وازنة بمختلف الأمم من حولها، وفي الحالة العربية هناك نقص واضح في الجانبين، فمثلاً نحن لا نعرف شيئاً عن المخطوطات العربية في مختلف مكتبات أوروبا وحتى إفريقيا جنوب الصحراء، وهناك من يقدر تلك المخطوطات بمئات الآلاف، والمسألة ليست رفاهية، ولكن اكتشاف المخطوطات وتحليلها وقراءتها ونشرها أمر يتعلق بتاريخنا نفسه، فهناك بعض النظريات التاريخية التي تغيرت تماماً بعد اكتشاف هذه المخطوطة أو تلك.

والأمر لا يتعلق بالمخطوطات وحسب، ولكن أيضاً بمعرفتنا بتلك اللغات التي كانت تستخدم الخط العربي في كتابة حروفها الأبجدية، مثل إفريقيا جنوب الصحراء، وتلك المجتمعات التي تأثرت بالثقافة العربية والدين الإسلامي، وهي مجتمعات معرفتنا بها ربما تكون شبه معدومة، وهي حالة لا تتعلق بوجودنا وفعّاليتنا في الماضي وحسب، ولكنها ترتبط بالعصر الحديث أيضاً، ومع تسارع ترجمة الأدب اللاتيني خلال العقود القليلة الماضية قرأنا عن شخصيات من أصول عربية في روايات ماركيز، وجورجي أمادو وغيرهما، شخصيات عبّرت عن تجمعات نابضة بالحياة وفاعلة في أمريكا اللاتينية، ولكننا لم نقابل ذلك بخطوة من ناحيتنا تتمثل في دراسات أو مشروعات ترصد تاريخ الوجود العربي الحديث في الأرض الجديدة.

وبين فترة وأخرى ربما يفاجئنا أن نسمع عن هذا الملياردير أو ذلك الرئيس الذي تعود جذوره إلى أصول عربية، والخطأ يتكرر في الراهن، فنحن لا نعلم شيئاً عن الوجود العربي الآن في أوروبا، ربما نعرف أرقاماً، ولكنها صماء لا تقول شيئاً عن التركيب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لمكونات ذلك الوجود.

إذا نظرنا إلى الجانب الآخر المتعلق بمعرفتنا بمختلف الأمم من حولنا، فإن الحال نفسه يتكرر، فمنذ سنوات وتجد الكثيرين يتحدثون عن الصعود الصيني واقتراب تحول العالم إلى نظام القطبين، ولكن في العمق، ماذا نعرف عن الصين؟ والمثير للأسى هنا أن الصين نفسها أدركت ذلك، وأسست خلال الفترة الماضية دور نشر للترجمة من الصينية إلى العربية، والصورة نفسها تنطبق على الثقافات الآسيوية بأكملها، ربما باستثناء اليابان، وأيضاً إفريقيا جنوب الصحراء، فالعرب منذ مدافع نابليون كانوا دائماً أسرى «المركزية الغربية».

وحتى هذا المصطلح الأخير مطاطي، حيث يؤشر في الحقيقة إلى ثقافتين أوروبيتين أو ثلاث شُغلنا بهم خلال القرنين الماضيين: الإنجليزية والفرنسية وبدرجة ما الألمانية والإيطالية، وربما الروسية في ظروف معينة، وكانت معرفتنا بتلك الثقافات تقتصر على الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، ودخلنا معها في جدل لا يزال قائماً حول سؤال ماذا نترك وماذا نأخذ من تلك الثقافات؟ وحتى داخل ذلك الفضاء الجغرافي الذي ندّعي أننا على علم به، فإن معرفتنا ضئيلة جداً بشمال وشرق أوروبا.

إن إدراك العالم نفسه بصورة طبيعية لا يكتمل إلا بمعرفة قيّمة بالذات والآخر، وعلى أساس هذه المعرفة ندرك مواطن قوتنا وأسباب ضعفنا، فنستثمر في الأولى ونعالج الثانية، ونستعيد مكانة مستحقة تخلينا عنها منذ قرون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5hy7ywre

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"